من 677 ق.م. حتى 332 ق.م.
بقلم د. يوسف الحوراني
باحث في التاريخ الحضاري
موقع صيدون القديمة
كان لدمار صيدون على يد «أسرحدون» سنة 677 ق.م. صدىً كبير في الإمبراطورية الأشورية. وقد وجدت هذه الحادثة مسجلة في السجلات التاريخية البابلية التي تذكر أن صيدون سقطت في السنة الرابعة لأسرحدون. وفي شهر تشرين من السنة الخامسة قطع رأس ملكها وأحضر إلى أشور، بينما رأس حليفه ملك «كندو وسيزو» أحضر إلى أشور في شهر آذار. وفي نسخة لسجلات أسرحدون محفوظة في المتحف البريطاني، وقد نشرها الباحث «سدني سميث»، يرد ذكر تاريخ سقوط صيدون في السنة الرابعة وإحضار الرأس إلى أشور في السنة الخامسة، ولا يرد ذكر لراس ملك «كندو» حليف الملك الصيدوني .
ويذكر نص أسرحدون أن صيدون كانت في وسط البحر، بينما يذكر نص لوالده صيدون الكبرى وصيدون الصغرى. وهذا ما يجعلنا نرجح وجود تجمعين سكنين منفصلين في صيدون، أحدهما في البحر، إذ من المستبعد أن تكون مدينة صغرى منفصلة عن مدينة كبرى في البر دون سبب يبرر هذا الانفصال.
ونحن نقرأ نص فيلون الجبيلي المنسوب لسانخونياتن، فنجد أن صيدون هي ابنة «بونتس»، أي البحر . وهذه الملاحظة الميثولوجية كبيرة الأهمية كقرينة في موضوع بحثنا عن موقع صيدون الأولى.
كما بعد سقوط صيدون الأولى بما يزيد على مئة وعشرين عامًا، نقرأ أن أشمو نعزر الثاني كتب على ناووسه أنهم بنوا بيتًا لعشترت في صيدون أرض البحر (يم)، وأسكنوا فيه «عشترت» باحتفالاتٍ عظيمة؛ ثم بيتًا لبعل صيدون، وبيتًا لعشترت سمية البعل. كما نقرأ نصًا لبدعشترت، حفيد «إشمو نعزر» هذا أنه بنى أيضًا معبدًا في صيدون البحر (بصيدون شمم رمم أرض رشفم صيدون مثل) .
وما يهمنا من هذا النص هو ذكر صيدون البحر، لأن القراءات التي نشرت له غير مقنعة ونحن نرجح قراءة «كلير مون غنو» التي يرى فيها أن الأسماء هي أسماء أحياء في صيدون وجوارها.
وهنا نذكر أن نص فيلون الجبيلي عن سانخونياتن يعرّف «سممروم» بأنه اسم لشخص مبدع هو ابن لآخرين كبار، منهم: كاسيوس ولبنان وانتيلبنان وبراثي، وقد تسمت هذه الجبال بأسمائهم. ويورد مدلول الاسم باللغة اليونانية بكلمة «هبسورانيوس» التي تعني «علو السماء». ويتابع النص فيقول أن هيسورانيوس هذا سكن مدينة صور وابتكر فيها بناء الأكواخ بالقصب وورق البردي، ثم اختلف مع أخيه «أوزوس» الذي اكتشف الألبسة لحماية الجسم وصنعها من جلود الحيوانات التي كان يقبض عليها .
وهذا يجعلنا نرجح أنه اسم لمكان تابع للجبل وليس صفة لمعبد أو بناء. كما أن كلمة «أرض رشف» قد تكون كنية لموقع. إذ أن الإله «رشف» اشتهر بالحرب والقتال وتظهر صورته غالبًا كمحارب يحمل ترسًا وحربة بيده اليسرى وعصًا بيده اليمنى. وقد وصف خلال النصوص الفرعونية بأنه «الإله العظيم، رب الأبدية، أمير الخلود، سيد القوة المضاعفة بين رفاقه الآلهة، إله عظيم، سيد السماء، سلطان الآلهة» .
وهنا لا نستبعد أن تكون تسمية «أرض رشف» كنية لموقع صيدون الأولى المدمَّر، وبخاصة أن اسم رشف مكتوب بميم الجمع في اللغة الفينيقية. وهذا التفسير ينسجم مع تعريف نص أشمونعزر بأرض سهل شارون، حيث توجد مدينتا دور ويافا بأنها أراضي داغون، أي إله الزراعة والحنطة. والاسم هو للإله «داغون» الذي غدا اسمه كنية للأرض في السطر 19 من النص.
ذكر أسرحدون أنه دمر المدينة ونقض أساساتها وألقاها في البحر. وهذا التشديد على الأساسات يعني أن هناك قيمة إنشائية لها. وهذه لا بد أنها كانت في البحر لتكون لها هذه القيمة، وهي إما لحماية الجزيرة من الماء أو لوصل صخرة بأخرى، كي يتصل البناء ويكون فوق جزيرة، كما فعل حيرام في جزيرة صور. كما أن إلقاء الأساسات في البحر يتطلب أن يكون البحر قريبًا منها، إن لم يكن محيطًا بها. وهكذا جميع الإشارات ترجح أنه كانت هناك أبنية فوق جزيرة من حجم ما.
وما لدينا اليوم هو صخرة القلعة البحرية، فهي محاطة بالماء، وآثارها تشير إلى أنها كانت تحتوي معبدًا، لا تزال بقاياه تظهر في جدران القلعة، وأبرزها الأعمدة التي استعملت أفقيًا في الجدران لتقوية البناء.
كما أن آثار البناء في الجزيرة المستطيلة، شمال الميناء، وعلى بعد أكثر من مئة متر من القلعة البحرية، تشير إلى أن هذه الجزيرة كانت عامرة بالسكان في زمنٍ ما. فهل يمكن أن تكون هذه الجزيرة جزءًا من صيدون البحرية، أو التي في البحر كما يقول النص...؟؟
إن الدراسات الأثرية الحالية لا تشجع على اعتبار صيدا الحالية تقوم في موقع صيدون الأولى، وإن يكن بعضها يثبت موقع صيدون الثانية المعاصرة للإسكندر.
قد جرت محاولات هامة للكشف عن موقع صيدون الأولى. فقام العالم الفرنسي «موريس دونان» بدراسة الموقع السكني جنوب المدينة، فظهر لديه أن السكن فيه يعود للعصر النيوليتي، أي الألف الخامس قبل الميلاد. وركام السكن في الموقع يمتد على مساحة محورها من الشرق إلى الغرب يبلغ تسعمائة متر، وهي بيضوية الشكل، وعرضها من الجنوب إلى الشمال ستمائة وخمسون مترًا، وعلوها المتوسط 22,95 مترًا والأعلى فيها 39,70 مترًا. وفي المنخفض بين مرتفعين تمر الطريق العامة باتجاه صور .
كما قام العالم اللبناني المرحوم «روجيه صيدح»، بعمليات نبش في حي الدكرمان بين 1967 و1972 خلال أربع حملات في هذا الموقع جنوب المدينة الحالية. وهو نبش مساحة الفين وخمسمائة متر من مساحة إجمالية تغطيها البساتين، قدرها بعشرات الهكتارات.
تبين أن المساكن التي يغطيها الرمل، بين ثلاثة وخمسة أمتار، كانت بيضوية الشكل وهي تعود لنهاية القرن الرابع قبل الميلاد. وقد جرت دراسة خمسة وعشرين منزلاً منها. وظهر في بقايا هذه المنازل آثار تعود للعصر الحجري كان العالم الألماني «فون لاندو» قد أشار إليها في كتاباته. وأحد هذه المنازل المكونة من غرفة واحدة يبلغ 7,20 × 7,65م من الخارج، وفيه مساحة سكنية تقارب عشرين مترًا مربعًا، وبناء الجدران منحنٍ إلى الداخل.
ولعل أوسع هذه المنازل هو ما أعطي الرقم «2»، حيث تبلغ مساحة السكن فيه خمسين مترًا، كما ظهر سور حول هذا التجمع السكني بلغت سماكة بنائه مترين، وعلوه ثلاثة أمتار. وهو متقن البناء من الخارج .
هكذا يبدو تاريخ مدينة صيدا، موغلاً في القدم. لكن الذي يحاول الاعتماد على النبشيات الأثرية لهذا التاريخ يصطدم بوجود حلقات مفقودة، لا تزال هي ذاتها التي واجهت «رينان» الفرنسي في أواسط القرن التاسع عشر. فهو لاحظ أن القبور في مغارة «أبلون» تعود للعهدين «الأشوري» و«الإخميني»، بينما رأي أن تاريخ صيدا المدني يعود على الأقل لألف سنة قبل ذلك. وجميع ما وجد في هذه القبور لا يتفق مع وجود البلدة الغنية المزدهرة. وقد علل ذلك بعمليات سرقة القبور، واعتبرها السبب الأساسي في غياب الآثار المناسبة للمدينة . ولكن الجواب لم يكن مقنعًا لأن هذا الفراغ يبرز في كل عمليات السبر التي جرت في أرض صيدا.
قام «دونان» بعملية سبر جنوب سور المدينة الحالية، فوجد قرب الشاطئ قبرين لطفلين يعودان لزمن الهكسوس. ولكنه لاحظ عدم وجود آثار تعود لعصر الحديد أو عصر البرونز الثالث. كما لاحظ أن صيدون الفارسية كانت غنية فوق المألوف .
كما كان الفرنسي «كونتنو» قام بعملية سبر شرقي القلعة البرية، فبلغ عمق ثمانية عشر مترًا من سطح الأرض. وهناك ظهرت بقايا تعود لنهاية الألف الثاني قبل الميلاد وأوائل الألف الأول. كما لاحظ وجود آثار هزّة أرضية حدثت لجدار تحت سبعة أمتار من الردم.
قام بفحص نظرية رينان الذي قال بوجود ميناءين في صيدا يماثلان ميناءي صور الشمالي والجنوبي. لكنه لم يعثر على أي أثر للقناة المفترض أن تربط بينهما، لا كعمل في الصخر ولا كوجود طبيعي. وقد اتفق عدد من الباحثين مع كونتنو في هذا الرأي، ومنهم الأب «بوادبار» والباحث «لوفريه». وهذان رأيا أن من المحتمل أن لا توجد آثار في الميناء الحالي تعود لما قبل العهدين الروماني والهيليني .
ولكن الباحث «إيزلن»، الذي وضع كتابًا عن تاريخ صيدون، يرى أن الميناء الجنوبي كان يستعمل في أقدم الأزمنة، حين كان البحارة يسحبون زوارقهم فوق الرمال، حين ينتهون من استعمالها فوق الماء. وهو رأى أن الميناء هذا أوسع من الميناء الشمالي، حيث يمتد من الشمال إلى الجنوب ستمائة ياردًا وما يقارب أربعمائة من الشرق إلى الغرب، وفتحته إلى البحر من الغرب هي ما يقارب مئتي ياردًا، وشاطئه رملي بمعظمه، وهو مملوء حاليًا بالرمال.
هو رأى أن المقابر المكتشفة حتى زمنه لا تعود أية منها إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد. كما افترض أن موقع المدينة القديمة يمتد إلى الشمال من المدينة الحاضرة، أي حتى نهر الأولي، حيث يكون معبد أشمون في قلب المدينة، بينما هو يبعد الآن عن البوابة الشمالية حوالي ألفين وتسعمائة ياردًا، إلى الشمال الشرقي، وألفين وخمسمائة ياردًا عن الحدود الجنوبية لمقبرة «القياعة»، وأربعة آلاف وأربعمائة ياردًا عن مدفن «أشمنعزر»، وألفًا ومئتي ياردة إلى الشمال من بلدة «البرامية»، حيث نبشت عدة نواويس منحوتة.
أخذ إيزلن هذه القياسات في السنوات الأولى من القرن العشرين. ويذكر أن عدد سكان صيدون في سنة 1896 كان أحد عشر ألفًا من مختلف الطوائف .
وإذا افترضنا أن المدينة التي كانت في العهد الروماني هي ذاتها المدينة المعاصرة للإسكندر، فإن حجرًا للمسافات وضعه الرومان في وسط المدينة سنة 198 للميلاد يعين موقع هذه المدينة آنذاك، حيث نفترض أنه كان في وسطها. وهو يبعد مسافة سبعمائة وثلاثين مترًا إلى الشرق من سور المدينة التي كانت في نهاية القرن التاسع عشر. هذا ما رآه «إيزلن».
وهكذا يبقى موقع مدينة صيدون الأولى مجهولاً. وقد افترض إيزلن أنها لا بد كان قسم منها فوق إحدى الجزر الصغيرة المواجهة للشاطئ الشمالي أو الشاطئ الغربي لكون «أسرحدون» يحدد وجود المدينة في وسط البحر. وأن هذا التأكيد يعود إلى اعتبار وجود القصر الملكي وتحصيناته في ذلك المكان .
وهنا لا بد من الإشارة إلى حادثة طبيعية نقل خبرها سترابو عن «بوزيدونيوس»، وهي «إن مدينة فوق صيدون ابتلعتها الأرض بفعل هزة أرضية، وكذلك ما يقارب ثلثي مدينة صيدون قد غرق، ولكن ليس دفعة واحدة. ولهذا لم تحدث خسائر في حياة الناس.»
وهذا التفصيل في الرواية يجعلها مقبولة. وبوجه خاص عندما تنسب إلى عالم فذّ مثل «بوزيدونيوس» الأفامي، الفيلسوف الذي اشتهر بالتوثيق العلمي في أمثال هذه المواضيع، وهو عاش بين «135 و51 ق.م.».
لا أذكر أني قرأت إشارة إلى خبر «بوزيدونيوس» هذا عند أحد من المعنيين بتاريخ صيدون الأولى. لكن التفاصيل الواردة فيه من حيث الغرق البطيء للمدينة تجعله مقبولاً وصالحًا لاعتماده في عملية بحث عن آثار داخل المياه الساحلية لصيدا.
إن هذا الافتراض وحده يحل مشكلة غياب آثار صيدون الأولى، هذه المشكلة اللغز التي حملت «رينان» إلى القول: «حتى اكتشاف المقبرة العظيمة سنة 1855م. يمكن القول أن صيدون القديمة، أم كنعان، قد اختفت بكاملها.»
* * *
لقد كان نص أسرحدون واضحًا، وهو أنه نقل المدينة من مكانها، وأجلى سكانها إلى بلاد «أشور» وأسكن في مدينته الجديدة شعوبًا جاء بها من منطقة الخليج ومن الجبال. وهنا نفترض أن الإجلاء لم يكن كاملاً، وإن يكن تدمير المدينة كان تامًا. ويقودنا إلى هذا الافتراض وجود الجبال القريبة من صيدون، حيث يمكن للفارين من الحرب اللجوء إليها والاحتماء بغاباتها ومغاورها. كما يمكن أن ينجو الفارون من الحرب في البحر وهو مفتوح أمامهم، وهم معتادون على الإفادة منه. ولا بد أن يكون الكثيرون منهم لجأوا إلى صور وبيروت وأرواد. ونحن بالفعل نقرأ لدى سترابو خبرًا عن مثل هذه الهجرة. حيث ذكر عن جزيرة أرواد: «الشعب يعيش في مساكن من عدة طبقات، وهي منشأة كما يقولون لمهاجرين من مدينة صيدون.» ويمكننا اعتبار نشوء بلدة باسم «صيدون» في الجبال كان حصيلة أمثال هذه الحالة.
ولا نستطيع أن نحكم في أية نكبة من نكبات صيدون نزح هؤلاء إلى «أرواد»، لكن وجودهم هناك أنموذج لما كان يحصل في أمثال حالتهم مع أسرحدون.
كما نذكر أن مدينة صور وملكها «بعلو» دفعت ضريبة ثقيلة، وقدمت، كرهائن، بنات ملكها لأسرحدون الذي سلخ عنها ما يتبعها من أراضي وبلاد على البر . وذلك لتتجنب الكأس الذي شربته جارتها وشقيقتها صيدون. ومن شأن هذه الحالة أن تكون صور فتحت أبوابها وقدمت سفنها لاستقبال الفارين والناجين من أبناء صيدون مع خبراتهم. وربما الكثير من ثرواتهم وعلاقاتهم التجارية مع بلاد البحر. وهذا ما يفسر اتساع نفوذ صور وازدياد مناعتها مما جعلها تصمد في حصار «نبوخذنصر» لها الذي دام ثلاثة عشر عامًا بعد دمار صيدون بأقل من مئة سنة.
كانت سياسة ملوك أشور تقوم على تذكية الخصومة بين المدن المتنافسة، كما في صور وصيدون، وذلك بتذكية الصراع بين العائلات الحاكمة. كما كانت تعتمد عملية إجلاء سكان وإبدالهم بغيرهم. وقد سجل سفر الملوك الثاني عملية إجلاء حدثت في عهد «تغلاتبلاصر»، فقال: «… جاء تغلاتبلاصر ملك أشور وأخذ عيون وآبل بيت معكه ويانوح وقادش وحاصور وجلعاد والجليل، كل أرض نفتالي وسباهم إلى أشور.» (29:15).
هذه البلاد معظمها يقع في الجنوب اللبناني. وهي كصيدون محاطة بجبال وغابات ولا يمكن لأية عملية إجلاء أن تكون تامة، ما دامت هناك ملاجئ يفر إليها رافضو الابتعاد عن أرضهم. وهذا ما يبدو أنه حدث مع الصيدونيين. فنحن نقرأ اسم «بل حرَّان شادوا» كحاكم للمدينة التي أنشأها أسرحدون في صيدا «كار أسرحدون» وذلك سنة 650ق.م. ولكن في الوقت ذاته نقرأ رسالة من قائد عسكري جاء إلى صيدون لتهدئة ثورة في البلاد الساحلية، وهو يُدعى «بل إبني» يقترح فيها على «أشوربانيبال»، خليفة أسرحدون قاهر صيدون، كما يعرّف نفسه، يقترح أن ينقل عشرين صيدونيًا إلى بلاد الخليج ليجهزوا له مراكب هناك .
هذا يعني أن الصيدونيين تابعوا نشاطهم البحري كشعب، وإن يكونوا قد فقدوا سيادتهم السياسية وأضحوا تحت سلطة حاكم أشوري.
حلَّ «أشوربانيبال» (668-633ق.م.) محل والده في قيادة عمليات الحرب. وقاد حملة عسكرية لاستعادة مصر التي كانت تمردت على والده. وقد عدد نص له أسماء اثنين وعشرين ملكًا رافقوه في هذه الحملة، وهم من ملوك الشواطئ والجزر. وبين هؤلاء ذكر «دموزو» ملك قرطاجة و«بوزوزو» ملك نورا (في سردينيا). ويذكر في مقدمة هؤلاء بعل ملك صور، ثم «ملكياشابا» ملك جبيل و«يقينيلو» ملك أرواد مع ملوك المنطقة. ولا يذكر شيئًا عن صيدون .
والسؤال هنا هو: هل كانت قرطاجه ونورا تتبعان سياسيًا مدينة صور وتلتحقان بسياستها أينما اتجهت؟
فهما، في هذا النص، يرد ذكرهما كمدينتين من مدن الساحل اللبناني، وليس كما هما في بعدهما الجغرافي. ولم يرد أي ذكر لحملة ضدهما، ولكنهما اشتركتا في الحملة الأشورية لإخضاع مصر.
ونقرأ في سجلات أشوربانيبال هذا أنه في حملة على بلاد الأنباط، في غزوته التاسعة لإخضاع العرب، عرَّج على مدن الساحل، وقتل بعض سكان «أوشو» (صور البرية)، لامتناعهم عن دفع الضرائب وعصيانهم حكامهم، واستعبد القادرين منهم، وسلب تماثيل معبوداتهم وأرسلها إلى بلاد أشور، مع الباقين من الأحياء .
ولم يرد ذكر لصور في هذه الغزوة، مع أنه ذكر عصيان «عكو»، وكيف أنه علق أجساد العصاة من أبنائها على سواري حول المدينة، وسبى الآخرين إلى بلاد أشور.
وهذا يعني أن صور كانت تتبع سياسة حكيمة مسؤولة تجاه السلطة الأشورية المتجبرة. وقد بقيت مستقلة وملجأ لأبناء صيدون وأمثالهم ممن دمِّرت بلادهم. ونجد صدى هذا الوضع لمدينة صور في نص لحزقيال الذي تنبأ بعد عهد أشوربانيبال بقليل من الزمن، حيث يقول: «أهل صيدون وأرواد كانوا ملاحيك. حكماؤك يا صور الذين كانوا فيك هم ربابينك، شيوخ جبيل وحكماؤها كانوا فيك نجاروك.» (8:27).
* * *
لم تغب صيدون طويلاً عن المسرح. ويبدو أن السكان الذين أحضرهم أسرحدون إلى «كارأسرحدون» لم يلبثوا أن تأقلموا مع محيطهم المتحضر وأهملوا الاسم الجديد للمدينة. وهكذا لم يستطع أي قرار ملكي أن يلغي اسم صيدون. وقد عادت للظهور مجددًا بعد سقوط دولة أشور سنة 612ق.م. وبروز دولة البابليين. فما أن استولى نبوخذنصر على السلطة حتى راح أرميا النبي يهدد الشعوب والمدن بسيفه، فيذكر «… وكل ملوك صور وكل ملوك صيدون وملوك الجزائر التي في عبر البحر.» (22:25).
كما أرميا يذكر ملكًا لصيدون عند قوله: «هكذا قال الرب لي: اصنع لنفسك رُبُطًا وأنيارًا وأجلعها على عنقك وأرسلها إلى ملك أدوم وإلى ملك مؤاب وإلى ملك بني عمون وإلى ملك صور وإلى ملك صيدون بيد الرسل القادمين إلى أورشليم… والآن قد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذنصر ملك بابل عبدي، وأعطيته أيضًا حيوان الحقل ليخدمه، فتخدمه كل الشعوب وابنه وابن ابنه حتى يأتي وقت أرضه أيضًا.» (2:27-7).
ويشير أرميا هنا إلى حلف كان في طريق الانعقاد لمقاومة البابليين الجدد بتشجيع من المصريين، الذين كانوا يعملون لاستعادة نفوذهم في المنطقة. وأهمية نصوص أرميا هنا هي في أنه كان معاصرًا لتلك الفترة، حيث عاش بين «650 و585ق.م.». وهو يذكر أن صيدون كانت تساند الفلسطينيين «بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين لينقرض من صور وصيدون كل بقية تعين، لأن الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور (كريت).» (4:47).
ويشمل النبي حزقيال (593-571ق.م.) بعد زمن أرميا بقليل، يشمل جميع الفينيقيين باسم الصيدونيين حين يقول: «هناك أمراء الشمال كلهم وجميع الصيدونيين الهابطين مع القتلى برعبهم خزوا من جبروتهم، واضطجعوا غلفًا مع قتلى السيف.» (30:32).
لقد اغتنم المصريون فرصة سقوط الدولة الأشورية «وصعد الفرعون نخو ملك مصر على ملك أشور إلى نهر الفرات.» (الملوك الثاني 29:23). وكانت فينيقيا ضمن البلاد التي احتلها المصريون. ولكن نبوخذنصر انتصر على المصريين في معركة كركميش سنة «605ق.م.» بعد معارك قاسية. ويبدو أن الفينيقيين لم يناصروا المصريين في هذه المعارك، بل التزموا الحياد. ولهذا نقم هؤلاء عليهم. ويبدو أن صيدون كانت أولى القوى التي قاومت نفوذ المصريين في المنطقة عند عودتهم إلى المسرح. فنقرأ لدى المؤرخ الإغريقي هيرودت أن أول عمل قام به الفرعون خفرع (588-568ق.م.) هو إرساله حملة عسكرية ضد صيدون، بعد أن اشتبك في معركة بحرية مع الصوريين .
ويبدو أن حملته هذه كانت لمعاقبة الفينيقيين الذي خذلوا أسلافه في حربهم مع البابليين الجدد.
وحسب رواية «ديودورس» الصقلي، فإن «خفرع» المصري هذا غزا قبرص وفينيقيا واحتل صيدون ودمرها بعنف، ليثير الرعب بعمله لدى المدن الفينيقية الأخرى . وكان المصريون قد أدخلوا عنصرًا جديدًا في الصراع بينهم وبين ملوك أشور وبابل. وهذا العنصر هو المرتزقة الإغريق. وكان خفرع هذا أنجح الملوك السابقين من أجداده، كما يرى هيرودت. هو حكم بين 588 و568ق.م.
وبعد معركة كركميش سلمت المدن الساحلية أمرها لنبوخذنصر المنتصر باستثناء مدينة صور التي رفضت الخضوع له، كما كانت رفضت الخضوع للمصريين قبله. وهكذا حاصرها طوال ثلاثة عشر عامًا من 585 حتى 572ق.م. ويبدو أنه لم يتغلب عليها، لأننا نقرأ لدى حزقيال سخرية منه، حيث يقول: «كل رأس قرع وكل كتف تجردت، ولم تكن له ولا لجيشه أجرة من صور لأجل خدمته التي خدم بها عليها.» (18:29).
ترك نبوخذنصر كتابة في وادي «بريسا» في شمال سهل البقاع اللبناني يكشف فيها نوع العلاقة التي نشأت بينه وبين اللبنانيين، ومنهم أبناء صيدون، كما يبدو. فهو يقول:
«في ذلك الوقت كان لبنان الجبل، غابة مردوخ الفخمة، ذات الرائحة العطرة وشجر الأرز العالي الذي قد لا يريده إله آخر أو يقطعه ملك آخر أراده «نابو ومردوخ» كزينة مناسبة لمقام حاكم السماء والأرض. (هذا اللبنان) كان يحكمه عدو غريب تسلّط عليه وسلبه خيراته، فتشرّد شعبه هاربًا إلى البعيد. وإيمانًا مني بقوة سيديّ نابو ومردوخ نظمَّت جيشي متجهًا إلى لبنان.
«جعلت ذلك القطر سعيدًا بعد استئصال عدوِّه من كل مكان وجد فيه. وأعدت سكانه المشردين إليه، إلى مساكنهم. وهذا ما لم يعمله أي ملك سابق. لقد مهدت جبالاً صعبة وقطعت صخورًا وشققت ممرات وأنشأت طرقات مستقيمة لنقل خشب الأرز.»
وفي قول نبوخذنصر بأنه فعل ما لم يفعله ملك قبله إشارة واضحة إلى إعادة أبناء صيدون المشردين على يد الأشوريين، وإن يكن الزمن بدا بعيدًا، منذ أسرحدون. كما أن النص يرينا أن العلاقة بين الفينيقيين والبابليين الجدد كانت علاقة صداقة ووئام.
لقد دام تردد نبوخذنصر على المنطقة طوال ما يقارب من نصف قرن. وقد عاد معه اسم ملك صيدون يبرز إلى جانب ملوك المنطقة. كما قد لاحظ «موريس دونان» وجود آثار هندسية بابلية للآلهة المحليين في معبد أشمون قرب صيدا .
ولعهد نبوخذنصر هذا نعيد استعمال تسمية «صرفند» في المنطقة لمقامين، الأول قرب صيدا والآخر قرب جبل الكرمل، باعتبار أن الاسم يعود للإلاهة «صربنيد» رفيقة الإله مردوخ البابلي.
وتذكر قوائم الأتباع والموظفين «حنونو» رئيسًا لتجار الملك، والاسم فينيقي، مما يشير إلى نفوذ الفينيقيين التجاري في المملكة البابلية.
وكانت نتيجة هذه العلاقة بين فينيقيا وأرض الرافدين أن اتجهت مصر إلى الاستعانة بالاغريق لنشاطاتها البحرية. وقد غدا للأيونيين والكاريين شأن كبير في مساندة السلطة وتثبيت الدولة المصرية. وأعطي هؤلاء أرضًا للبناء والإقامة في «ممفيس». كما أخذ أبناء المصريين يتعلمون اللغة اليونانية، كما يخبرنا بذلك المؤرخ هيرودت (154:2).
وهذا الموضوع يفسر لنا الحرب البحرية التي وقعت بين الفرعون «خفرع» ومدينة صور. فقد كان بحارة مصر من الأيونيين والكاريين. وقد أشار نص لنبوخذنصر إلى وجود جنود من الإغريق في الجيش المصري .
العهد الفارسي
سقطت الدولة الكلدانية البابلية بأيدي الفرس سنة 538ق.م. واعتبر هؤلاء أنفسهم ورثاء شرعيين لجميع البلاد التابعة لها على شواطئ المتوسط. وكانت صيدون قد ازدهرت في ظل الحكم الكلداني وبرزت كمدينة هامة على شاطئ المتوسط بعد غياب صور عن البر طوال ثلاثة عشر عامًا أثناء حصار نبوخذنصر لها.
جاء الفرس بوجه جديد في السياسة فوعوا جيدًا أهمية العلاقات التجارية التي كانت لمدينة صيدون مع البر والبحر. ولهذا اعتمدوها مركزًا سياسيًا وإداريًا لهم. واعتبروا الفينيقيين بوجه عام حلفاء لهم في مواجهتهم للنفوذ الإغريقي المتصاعد في البحر الأبيض المتوسط. وهؤلاء بدورهم أدركوا أهميتهم كحلفاء، فلم يكونوا يتصرفون كأتباع يطيعون الأوامر المعطاة لهم، وإنما كان لهم رأي في مجرى الأحداث. فهم، مثلاً، ساعدوا قمبيز الفارسي في غزو مصر سنة 525ق.م. ولكن عندما أراد إكمال فتوحاته بغزو قرطاجه رفض الفينيقيون ذلك، فتراجع عن الفكرة، وذلك لأنهم كما يقول هيرودت «كانوا متطوعين بإرادتهم في جيشه، وكانت قواته البحرية جميعها تعتمد عليهم.» (19:3). وكان الصيدونيون، كما سنرى، عماد البحرية الفينيقية.
نالت صيدون حظوة عظيمة لدى الفرس، فوسعوا سلطتها ووهبها «قمبيز» الفارسي مدينتين في سهل «شارون»، هما: دور ويافا. كما نقرأ ذلك على نصب أنشأه الملك الصيدوني «أشمنعزر الثاني» . وذلك مكافأة لمساعدتها في غزوة مصر.
كان الفرس حكماء في تعاملهم مع الشعوب التي خضعت لهم. فهم في أول عهدهم، وفي زمن «كورش» و«قمبيز»، كما يخبرنا بذلك هيرودت، لم يفرضوا ضريبة منظمة محدَّدة على الآخرين، بل كان مدخولهم يصل مما يقدم لهم كهدايا وتقدمات طوعية من هذه الشعوب (91:3). وهذا لم يكن مألوفًا من الإمبراطوريات المتعاقبة السابقة.
ولكن بعد أن نظموا إدارة الإمبرطورية في عشرين ولاية، رسموا ضرائب تدفعها هذه الولايات وفق إمكانات كل منها، ولكنها على أية حال لم تكن ضرائب مرهقة بالنسبة لما كان الأهلون يدفعونه في الماضي.
كانت البلاد الفينيقية في الولاية الخامسة عشرة الممتدة من حدود كيليكيا حتى حدود مصر. وتشمل جزيرة «قبرص». وكانت تدفع «350» وزنة من الفضة سنويًا فقط. كانت المدن الفينيقية مستقلة، ولها ملوك جرى ترتيبهم في جلوسهم في البلاط الملكي على الشكل التالي، كما يذكرهم المؤرخ هيرودت: ملك صيدون أولاً، ثم ملك صور، ثم ملك أرواد، ثم ملك كيليكيا (98:7 و68:8).
وكان ملوك البلاط مستشارين لدى الملك، لا يقدم على عمل حربي دون أخذ رأيهم. وكانت المدن الفينيقية تعقد اجتماعات مشتركة بينها في مدينة طرابلس وذلك لاتخاذ القرارات المهمة لمستقبلها. وكانت طرابلس هذه مؤلفة، حسب اسمها من ثلاثة أحياء: واحد يخص أرواد والثاني يخص صيدون والثالث يخص صور . وكان مرزبان الولاية الفارسية وقادة الجيش يقيمون في مدينة صيدون الكبرى. وهذا ما أعطاها فرصة عظيمة للازدهار الاقتصادي، بينما جعلها تحت رقابة صارمة في علاقاتها السياسية.
كانت تسمية صيدونيين تعني من هم أكثر من سكان المدينة، حيث نقرأ لدى الكاهن «عزرا» عند حديثه عن إعادة بناء هيكل أورشليم «وأعطوا فضة للنحاتين والنجارين ومأكلاً ومشربًا وزيتًا للصيدونيين والصوريين ليأتوا بخشب أرز من لبنان إلى بحر يافا حسب إذن كورش ملك فارس لهم.» (7:3).
كانت صيدون المرفأ الرئيسي الذي يعتمده الفرس في البحر الأبيض المتوسط. ولهذا عندما أراد «داريوس» إرسال بعثة استكشاف إلى بلاد الإغريق مع الطبيب الإغريقي «ديموكيدس» جاءت البعثة إلى صيدون، وجهزت مركبين حربيين وسفينة تجارية شحنوها بالسلع التجارية الثمينة، كما يخبرنا هيرودت (137:3).
لقد اختص الصيدونيون بالقيادة البحرية لدى الفرس. ويخبرنا المؤرخ الإغريقي المذكور أن أرتحشستا الأول، خلال حملته على بلاد الإغريق، أنه أمر بإجراء سباق بين السفن في بحر «أبيدوس»، وكان يراقب المتسابقين، فنجح الصيدونيون بكسب السباق وسر الملك بذلك سرورًا عظيمًا (47:7).
كما يقول في وصفه للجيوش والسفن التي تضمنتها الحملة: كانت أسرع السفن، السفن الفينيقية، وأفضلها كانت الصيدونية (96:7). وقد اشتهر «امنستوس ابن أنيسوس» (أنيس) من صيدون في هذه الحملة. وكان الصيدونيون أبرز المحاربين البحريين في الجيش الفارسي، بينما الأثينيون كانوا الأبرز لدى الإغريق. كما يذكر ذلك المؤرخ ديودورس الصقلي (13:11)، حين وصفه لإحدى المعارك.
وإننا نقرأ لدى هيرودت عندما كتب بإعجاب عن سفن «أرطميسا»، الهليكارنسية «جهزت خمس سفن حربية، كانت الأشهر في الأسطول (الفارسي)، بعد الفريق الصيدوي» (101:7). أي أنه استثنى سفن صيدون من المقارنة لكونها لا تقارن، من حيث تفوقها.
ونقرأ لديه أن أرتحشستا حين أراد استعراض قواته البحرية صعد إلى سفينة من سفن صيدون، وجلس تحت مظلة ذهبية، وأبحر بمحاذاة السفن الراسية يسأل عن كل سفينة، ويتلقى الأجوبة فيسجلها (101:7).
هكذا نرى أن مدينة صيدون ازدهرت بفعل عوامل مختلفة، أبرزها صراع صور الطويل مع المصريين والكلدان، وغيابها عن التجارة البرية بفعل هذا الحصار. ثم، كما يرى «إيزلن»، التركيب الشعبي المتنوع لمدينة صيدون بعد أن أسكن فيها أسرحدون جماعة من الغرباء، الذين كانوا لها علة ازدهار طوال مئتي عام .
وقد كان محقًا في هذه النظرة، فالصيدونيون الجدد، بتركيبتهم المختلطة، ابتعدوا عن العصبية العائلية والقبلية، وسادت روح التنافس بينهم واتسعت علاقاتهم التجارية وتنوعت.
ومن خلال روايات هيرودت نستنتج أن الفينيقيين كانوا الجناح البحري للجيش الفارسي. فهو يذكر أن «أونسيلوس» من سلاميس في قبرص، عندما علم بأن الفرس يعدّون لغزو الجزيرة، طلب النجدة من المدن الأيونية. واجتمع قادة هذه المدن في قبرص. فخيرهم القبارصة بين أن يحاربوا الفرس على الأرض أو الفينيقيين في البحر، فرد الأيونيون بقولهم أن مجلس أيونيا العام أرسلهم ليحرسوا البحر وليس لتسليم سفنهم لغيرهم ومحاربة الفرس على اليابسة (109:5). وهذا كان في زمن داريوس الأول (521-485ق.م.).
كما نقرأ لدى ديودورس الصقلي، أنه خلال حرب أسبرطه والفرس انضمت تسعون سفينة حربية ثلاثية إلى القائد الفارسي «كونون»، كانت عشر منها من كيليكيا وثمانون سفينة من فينيقيا بقيادة قائد الصيدونيين، كما يقول النص (79:14).
وكما يخبرنا هيرودت: أعادوا «أياكس» إلى الحكم في «ساموس» (26:6). وبينما كان «هستياوس» محاصرًا جزيرة «ثازوس» بقوة كبيرة من الأيونيين جاءته أخبار بأن الأسطول الفينيقي غادر «مليطا»، وهو ينوي مهاجمة المدن الأيونية. فترك الحصار مباشرة واتجه بجيشه إلى «لسبوس» (30:6).
ويخبرنا أيضًا أن سكان بيزنطيا ومدن خلقيدونيا المقابلة، المجاورة، فرُّوا إلى شواطئ البحر الأسود تجنبًا لغارات الفينيقيين (34:6). وهم كانوا احتلوا مدن الشواطئ لصالح الفرس باستثناء كارديا (35:6).
كانو يقومون بدور الشرطة البحرية لصالح الفرس. فيذكر لنا هيرودت أن السياسي الاثيني «ملتيادس» ما أن علم أن الفينيقيين موجودون في «تنيدس» حتى شحن أمتعته على خمس سفن ثلاثية وأقلع باتجاه «أثينا»، منطلقًا من «كارديا»، فالتقى بالفينيقيين الذين أسروا سفينة له، كانت تقل ابنه الأكبر «متيوخس». وقد سلموا هذا لداريوس الذي أحسن استقباله (41:6). أما ذنب ملتيادس فهو كان قد وافق على تدمير جسر فوق نهر «الدانوب» الشهير.
ومن يطّلع على مشاركة الفينيقيين في الحرب الفارسية ضد الإغريق يتساءل عما إذا كانت هذه الحرب هي حربهم هم لمنافسيهم الجدد آنذاك أم حرب الفرس ضد الإغريق.
لقد كانت المنافسة حامية في المجال التجاري والاستعماري بين الفينيقيين والإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت مسؤولية صيدون كبيرة في هذا المجال. فهي العاصمة الإقليمية للولاية الخامسة عشرة. وهي الوجه البارز للفينيقيين في البلاط الإخميني. كما هي المستفيد الأكبر من هزيمة الإغريق. ولهذا استفادوا من العداء الفارسي للإغريق، وربما ساعدوا في تغذيته، واشتركوا في الحرب بملء رغبتهم فيها، وليس كتابعين مأمورين، وإنما كفريقين التقت مصالحهما معًا.
كان الفرس قد اصطدموا بالتوسع الاستعماري الإغريقي في بلدان آسيا الصغرى. كما كان الفينيقيون، بوجه عام، بدأوا يحسون بمضايقة الإغريق لهم في مستعمراتهم في جزر المتوسط.
جنّد أحشويرش الأول (485-465ق.م.)، حملة على بلاد الإغريق، بلغ عدد جنودها مليونًأ وسبعمائة ألف جندي، حسب تقدير المؤرخ هيرودت (63:7)، الذي عاش قريبًا من ذلك الزمن (ولد بين 490 و480ق.م.). وبلغ عدد السفن المشاركة في الحملة ألفا ومئتين وسبع سفن حربية. كانت مساهمة الفينيقيين والفلسطينيين منها ثلاثمئة سفينة (86:7).
كانت بحرية صيدون مجلية في هذه الحملة. ولكن نزق الملك الفارسي جعل الفينيقيين يتقاعسون في اندفاعهم، ففشلت الحملة.
وقصة هذا التقاعس هي أن الفينيقيين بنوا جسرًا لعبور المضيق بين أوروبا وآسيا فوق المراكب البحرية، مستخدمين حبال الكتان لربط المراكب. والمصريون بنوا جسرًا موازيًا، مستخدمين حبال البردى. وبعد أن انتهى إنشاء الجسرين هبت عاصفة قوية، لم تكن في الحسبان، فجرفت الجسرين معًا. فغضب عندئذ الإمبراطور الفارسي جدًا وأمر بقطع رؤوس المسؤولين عن إنشاء الجسرين (36:7).
كما جاءه بعض الفينيقيين يشكو له خيانة بين أتباعه من الأيونيين، مما جعلهم يفقدون سفنهم، فاتهمهم بالخيانة وأمر بإعدامهم بدلاً من أن يحقق في الموضوع (90:8). وهكذا كان نزقه سببًا في تراخي أتباعه وحلفائه، فهُزم جيشه.
لكن، وحتى في حال الهزيمة، كان للفينيقيين دورهم، حين استعان بتجّارهم لإنشاء جسر وكاسرات للموج، كي يعبر معه جيشه المهزوم (98:8). كما هو فرّ على سفينة فينيقية، مجتازًا إلى البر الآسيوي، مع مجموعة من النبلاء الفرس. وكانت هذه الرحلة نهاية علاقة الود بين الصيدونيين والإمبراطور المهووس. فقد هاج البحر وكانت السفينة مثقلة بالركاب من الحاشية الملكية، فسأل الإمبراطور القبطان عن طريقة للحفاظ على حياته الملكية، فأجابه القبطان بأن الطريقة الوحيدة هي تخفيف الحمولة. وعندئذ طلب الإمبراطور من أتباعه إثبات ولائهم له. وبدون أية كلمة أو نقاش ألقوا بأنفسهم في الماء لافتداء الملك بتخفيف حمل السفينة.
وعند وصوله سالمًا إلى البر دعا القبطان الفينيقي، الذي كما يبدو كان من القادة، ومنحه تاجًا ذهبيًا مكافأة له لإنقاذه حياته، ثم أمر بقطع راسه، لكونه تسبب بموت عدد من الفرس.
وعلق هيرودت على هذه الرواية، مستنكرًا تصرف الملك الفارسي، لكون هذا كان بإمكانه إلقاء عدد من البحارة الفينيقيين في الماء وإنقاذ المركب (118:8) حسب قوله.
العلاقة مع الإغريق
لقد استفاد الفينيقيون من دورهم البحري ضمن الإمبراطورية الفارسية؛ عندما بدأ الفرس يتدخلون في السياسة الداخلية لبلاد الإغريق، حيث يناصرون مدينة ضد أخرى ويحاربون مع فريق ضد الفريق الآخر، كان الفينيقيون غالبًا آداة التنفيذ لهذه السياسة. ونحن نعيد صداقة صيدون للأثينيين إلى هذه الحالة السياسية، حيث ناصر ابناء صيدا أبناء أثينا في حربهم ضد أسبرطه، وجعلوهم ينتصرون في معركة «كنيدس» البحرية سنة 394ق.م. كما يخبرنا بذلك ديودورس الصقلي (83:14).
لقد نشأت علاقة مودة بين صيدون وأثينا. كان تتويجها معاهدة «بروكسينيا» أي العلاقة الفضلى بين شعب أثينا وستراتو (عبد عشترت) ملك صيدون. وهذه المعاهدة تعفي الصيدونيين من الضرائب المفروضة على الغرباء في جميع بلاد «أتيكا». كما تعفيهم من الرسوم للدولة «خورجيا»، ومن جميع الموجبات لها .
ولزمن هذه العلاقة تعود القبور والأنصاب التي تحمل كتابة فينيقية في البلاد الأتيكية، فنقرأ على أحدها أنه «نص للذكر بين الأحباء لعبد تانيت بن عبد شمس الصيدوني». ونقرأ على الآخر أن رجلاً من عسقلان أقام النصب لذكرى رجل من صيدون .
وقد لاحظ «إيزلن» من بين ستة قبور تحمل أنصابها كتابات فينيقية وجدت في أثينا و«بيراوس» كانت ثلاثة منها لأشخاص من صيدون.
وقد دخل ثراء صيدون مجال التندر بين الأدباء. وغدا ملكها «ستراتو» شخصية شبه أسطورية، كتب عنه ساخرًا أحد الكتاب الرومان بعد زمنه ببضعة قرون فقال: «إن مغنية واحدة لا تكفي للترفيه بنغمها عن «ستراتو» على مائدة الطعام. لذلك تحضر مجموعة من المغنيات الإناث ولاعبات المزمار والمحظيات من أجمل القدود مع الراقصات. وهو يبذل جهده ليتفوق على «نيكوكلس» (ملك سلاميس). كما أن هذا يعمل للتفوق عليه. ولكن هذين ينافس أحدهما الآخر، ليس في موضوع ذي أهمية، وإنما في هذا الأمر الذي ذكرته.»
هذا ما نقله «إيزلن» عن كتابة لإيليانس، معلم الخطابة في روما، في أواسط القرن الثاني للميلاد. بينما عبد عشترت، أي «ستراتو»، كما يسميه الإغريق، عاش في القرن الرابع قبل الميلاد. وهذا يعني لنا أن شهرة رفاه صيدون بقيت طوال ستة قرون مضرب مثل لدى الإغريق والرومان.
ولكن هذا الرفاه لم يدم طويلاً في ظل التسلط الفارسي في المنطقة. فنحن نقرأ لدى ديودورس الصقلي أن فينيقيا كانت مع الثائرين على حكم «أرتحشستا الثاني» (405-358ق.م.). وذلك في ما أطلق عليه «ثورة المرازبة». وقد كانت هذه الثورة بتشجيع من مصر التي كانت تعد السفن والجيش وتجنّد المرتزقة من الإغريق لمحاربة الفرس (90:15).
وفي هذه الثورة يبرز دور «ستراتو» في قصة مأساوية تنهي حياته كشخصية شبه أسطورية، وذلك خلال الثورة سنة 362ق.م. والقصة وصلنا تسجيلها بعد زمنه بعدة قرون. فقد كتب «جيروم» عنه يقول أنه عندما عرف بفشل الثورة وبأنه سيقع بيد الفرس ويخضع لتعذيبهم، قرَّر إنهاء حياته بالانتحار. ولكنه، في اللحظة الحاسمة، أخذ يتردَّد. وعندئذ أدركت زوجته ضيق الوقت أمامه، فلم يكن منها إلاَّ أن انتزعت السكين من يده وطعنته في جنبه .
نهاية صيدون الثانية
لم تتوقف ثورة صيدون مع موت ستراتو صديق الإغريق سنة 358 ق.م.، إذ ما أن توفى ارتحشستا الثاني حتى تولى السلطة بعده ابنه «ارتحشستا الثالث» المعروف باسمه «أوخس». وكان الهم الأول لهذا، هو إعادة تسلط الفرس على مصر. ومن ضمنه استعادة ولاء مدن الساحل اللبناني التي كانت تعني الكثير لتجارة الفرس وعلاقاتهم بحوض البحر المتوسط.
والقصة كما يرويها ديودورس الصقلي هي أن الفينيقيين عقدوا اجتماعًا قوميًا عامًا لهم في مدينة «طرابلس» المشتركة بينهم. وتداولوا في شأن تصرفات مرازبة الفرس وقادة جيوشهم المقيمين في مدينة صيدون. وكان هؤلاء يعاملون الأهلين بأسلوب التعالي المهين. فقرّر الفينيقيون معًا الثورة على الفرس والعمل للحصول على استقلال بلادهم. وارسلوا رسلاً إلى الملك المصري «نكتانيبوس» المعادي للفرس، فقبل بهم حلفاء له، وراحوا يعدون العدة للحرب.
وبما أن صيدون كانت متميزة بالثراء، وكان مواطنوها جمعوا ثراءً عظيمًا من عمليات التجارة والشحن في البحر، استطاعوا بسرعة جمع عدد كبير من السفن الحربية الثلاثية. كما جندوا الكثيرين من المرتزقة، بالإضافة إلى الأسلحة والقذائف المحرقة والطعام. وجميع المواد الأخرى اللازمة للحرب تم إعدادها. وكان العمل العدائي الأول الذي قاموا به هو قطع أشجار المتنزَّه الفارسي وتدميره. وقد كان الملوك الفرس يلجأون إليه للاستجمام.
أما العمل الثاني فكان قيامهم بحرق مؤونة الخيول التي كان المرازبة قد جمعوها في صيدون لأوقات الحرب.
ثم قبضوا على الفرس الذين كانوا ارتكبوا سفاهات ضدهم وانتقموا منهم (41:16).
* * *
هكذا كان بدء الحرب في صيدون ضد «ارتحشستا الثالث» (358-337ق.م.). وقد علم هذا بالأعمال العدائية، فأصدر تحذيرات لجميع الفينيقيين، وبوجه خاص للصيدونيين.
«جمع الملك قواته من المشاة والفرسان في بابل. استلم قيادتهم واتجه مباشرة لمحاربة الفينيقيين. وبينما كان لا يزال في الطريق، قام «بليزيس» مرزبان سوريا و«مزاوس» حاكم كيليكيا بجمع قواتهما والاشتباك بحرب ضد الفينيقيين. وكان «تنيس» ملك صيدون قد حصل من المصريين على أربعة آلاف جندي من المرتزقة الإغريق بقيادة القائد «منتور» الرودسي. وبمساعدة هؤلاء وبالمجندين من المواطنين اشتبك مع الاثنين وهزم جيشيهما وطردهما من فينيقيا.
«وخلال هذه الأحداث اندلعت حرب في قبرص أيضًا. وقد تداخلت عملياتها مع الحرب في صيدون، لأن في هذه الجزيرة توجد تسعة مدن عامرة بالسكان تتبع كل واحدة منها بلدات صغرى تكون كضاحية لها. ولكل مدينة من تلك المدن ملك يحكمها، ويتبع ملك الفرس. واتفق جميع ملوكها على الثورة، تقليدًا للفينيقيين. وبعد أن استعدوا للحرب أعلنوا استقلال مملكاتهم...
«وبعد أن انطلق ملك الفرس بمسيرته مع جيشه، من بابل إلى فينيقيا، علم تنيس حاكم صيدون بالحجم الضخم للجيش الفارسي. وقدَّر أن المتمردين غير مهيئين لمحاربته. فقرر العمل لأجل سلامته الشخصية. ووفق ذلك، وبدون معرفة شعب صيدون، أرسل «ثيتاليون» أشد المخلصين له من أتباعه إلى أرتحشستا، كي يعده بأنه سيخون صيدون من اجله، وانه سيساعده في التغلب على مصر، فيقدم له خدمة جليلة، لأنه يعرف مسالك مصر ويعرف بدقَّة مراسي السفن على شواطئ النيل. وعندما سمع الملك من ثيتاليون هذه الأمور الخاصة، سرَّ جدًا، وقال بأنه سيعفي تنيس من المسؤولية المتعلقة بالثورة، ووعد بأنه سيعطيه مكافأة كبرى إذا هو أنجز كل ما تعهد به وتم الاتفاق عليه.
«ولكن عندما أضاف ثيتاليون بأن تنيس يريد منه أن يؤكد وعوده بإعطائه يده اليمنى، انفجر الملك غيظًا للفكرة، لأن ذلك اتهام له بعدم الوفاء، وسلم ثيتاليون لمرافقيه آمرًا إياهم بقطع راسه. ولكن، بينما كان ثيتاليون في طريقه إلى عقابه، قال ببساطة: «إنك أيها الملك تعمل ما يرضيك، ولكن تنيس، برغم أنه مؤهل لانجاز النجاح الكامل، ولأنك ترفض العرض، هو بالتأكيد لن ينجز أي شيء من وعوده.» وعندما سمع الملك ما قاله غيَّر رأيه، ونادى أتباعه ثانية، طالبًا منهم تخلية ثيتاليون، وعندئذ أعطاه يده اليمنى لكونها ضمانة للعهود لدى الفرس. ووفق ذلك عاد ثيتاليون إلى صيدون وروى ما حدث معه لتنيس بدون إعلام شعب صيدون.
«اعتبر الملك الفارسي ذلك الأمر عظيم الأهمية، بسبب هزيمته السابقة في مصر. وهو أرسل مبعوثين إلى كبريات مدن الإغريق يطلب منهم الانضمام إلى الفرس ضد المصريين. وقد اجابه الأثينيون واللاسيديمونيون (الأسبرطيون)، بأنهم حريصون على صداقتهم للفرس، لكنهم يعارضون إرسال جيوش كحلفاء...
«... وقدم الإغريق المقيمون على شواطئ آسيا الصغرى ستة آلاف رجل، فبلغ مجموع الإغريق الذين اشتركوا كحلفاء عشرة آلاف. وقبل وصولهم، وبعد أن اجتاز الملك الفارسي سوريا ووصل إلى فينيقيا، خيّم غير بعيد عن صيدون. أما بخصوص الصيدونيين، ومع أن حركة الملك كانت بطيئة واظبوا على إعداد الطعام والسلاح والقذائف. كما أنهم أحاطوا مدينتهم بثلاثة خنادق ضخمة، وببناء أسوار عالية. وكان لديهم عدد كبير من الجنود المواطنين المدربين جيدًا على الأعمال الشاقة، مع شروط قوة جسدية ممتازة. وكانت المدينة تتجاوز المدن الفينيقية الأخرى بثرائها ومواردها الأخرى، وهي أهمها جميعًا ولديها أكثر من مئة سفينة ثلاثية وخماسية.
«كان تنيس ائتمن «منتور» على خطة الخيانة، وهذا هو قائد المرتزقة الذين جاءوا من مصر. وقد جعله يحرس جزءًا من المدينة ويعمل بالتنسيق مع عملائه لتنفيذ الخيانة، بينما هو ذاته يسير مع خمسمائة رجل إلى خارج المدينة بإدعاء أنه ذاهب لعقد اجتماع عام للفينيقيين، وهو يصطحب معه أبرز وجوه المواطنين، بالإضافة إلى مئة رجل بدور المستشارين. وما أن وصلوا إلى قرب الملك حتى قام بالقبض على المئة فجأة، وسلمهم إلى أرتحشستا الثالث. رحب به الملك كصديق وأطلق السهام على المئة باعتبارهم محرضين على الثورة. ولما اقترب الوجوه الصيدونيون الخمسمائة وهم يحملون أغصان الزيتون علامة التوسل، اتجه إلى تنيس وسأله، إذا كان مستعدًا لتسليم المدينة له، فهو كان يحرص على أن لا يتسلم صيدون بشروط الاستسلام، لأن هدفه كان يقضي بنكبة الصيدونيين بخراب دون رحمة، كي يثير الرعب في المدن الأخرى بمعاقبتهم.
«وعندما أكد له تنيس بأنه سيسلم المدينة، بقي الملك على غضبه الذي لا يرحم وقتل الوجوه الخمسمائة، وهم يحملون الأغصان متضرعين. وعندئذ اقترب تنيس من المرتزقة المرسلين من مصر، وطلب منهم العمل لإدخاله هو والملك إلى داخل الأسوار. وهكذا بهذه الخيانة الأساسية سقطت صيدون بيد قوات الفرس، وحيث اعتبر الملك ان تنيس لم يعد ذا فائدة له قضى عليه بالقتل.
«لكن شعب صيدون وقبل وصول الملك أحرقوا جميع سفنهم، بحيث لم يعد أي إنسان من المدينة يستطيع الإبحار سرًا، ناجيًا بنفسه. وعندما رأوا المدينة والأسوار ساقطة ينتشر فوقها ألوف الجنود، أقفلوا منازلهم على أنفسهم وأبنائهم ونسائهم وأشعلوا فيها النار. ويقولون بأن أولئك الذين قضوا بالحريق مع خدمهم بلغ عددهم أكثر من أربعين ألفًا. وبعد هذه الكارثة التي مني بها الصيدونيون ومدينتهم معهم بسكانها، حيث كانوا طعمة للنار، قام الملك ببيع تلك المحرقة الجنائزية بعدة وزنات، لأن إزدهار بيوت المدينة غدا كمية كبيرة من الفضة والذهب، مصهورة بالنار. وهكذا فإن الخراب الذي حصل لصيدون، مع هذه النهاية، حمل المدن الأخرى إلى التسليم للفرس بسبب صدمة الذعر هذه.»
والسؤال الذي يطرحه التاريخ عن هذه الحادثة الفذة هو: هل كان تنيس خائنًا…؟
أخطأ المؤرخ ديودرس الصقلي عندما حكم على تنيس الصيدوني بالخيانة، دون تحليل أو تعليل. وقد كان عليه أن يدرس موقف الملك الصيدوني ومحاولته لإنقاذ مدينته وليس نفسه فقط، كما اعتقد. كان عليه أن يحذو حذو هيرودت عندما أدان أحشويرش لقتله الرئيس البحري الذي أوصله للبر سالمًا واستحق المكافأة لا القتل بتهمة التسبب بموت نبلاء من الفرس (120:8).
لقد ورث تنيس الثورة من أسلافه، ولم يكن يستطيع الخروج منها. ولنذكر هنا أن تنيس لم يتخذ قرار الثورة وحده أو صيدون وحدها، بل كان قرارًا قوميًا عامًا، اتخذته المدن، الدويلات التابعة للفرس بمساندة دولة كبرى هي مصر ةتعاطف مع بلاد الإغريق. وفي هذه الحالة كان على تنيس أن يحاول الخروج من هذا المأزق بأقل خسائر ممكنة.
وعندما نعرف عمق العلاقة التي كانت بين الفينيقيين وبلاد الإغريق، في تلك الفترة، نعرف أن الفكر الإغريقي في الحرية، كما برز مع أرسطو وأفلاطون، كان له ما يضارعه، وربما يتفوق عليه، في صيدون وصور وغيرهما من مدن فينيقيا. وهكذا نجد أن الحرب التي أدت إلى انتحار الصيدونيين كانت حرب عقائد ومبادئ في الحرية، تصل إلى حد التدين، أي أنها حرب بين مفهومين لمعنى الإنسان: المفهوم الديمقراطي في الحقوق والواجبات والحرية يقابله المفهوم التسلطي الفارسي الذي كان يمارسه الإمبراطور «أوخس» ومرازبته المطلقو السلطة على الشعوب.
وهنا علينا أن نتذكر أن الزمن الذي نشأت فيه الثورة على الفرس كان زمن الإزدهار والتوسع لدى الفينيقيين. كما هو زمن تنظيم دولهم، هذا التنظيم الذي كتب عنه أرسطو بأعجاب عندما عرفه في قرطاجه. وذلك خلال كتابه «السياسيات»؛ حيث رأى أن عدم حدوث أية ثورة على دستور القرطاجيين وعدم وجود طاغية بينهم سببه وجود حكم ديمقراطي يشرك الشعب في السياسة العامة .
يبدو أن صيدون كانت تتمتع بحكم برلماني مماثل لحكم قرطاجه. وكان عدد ممثلي الشعب مئة شخص. وربما كان بعدد ممثلي قرطاجه المئة والأربعة حسب أرسطو. فالمؤرخ ديودرس كتب تاريخه بعد ثلاثمائة عام من الواقعة. هؤلاء المئة سلمهم تنيس للملك الفارسي فداءً عن المدينة وفق بنية ذهنية الفداء التي كانت في حضارة الفينيقيين، والتي كانت تحملهم على تقديم أبنائهم أضحيات للآلهة لإنقاذ مدنهم، كما فعلت قرطاجة مرة عندما حاصرها «أغاتوكل»، حيث ضحت بمئتين من أبناء نبلائها، كما يخبرنا بذلك ديودورس الصقلي (14:20).
فلنا أن نفترض هنا أن تنيس، كمسؤول ورجل دولة خطّط لتقديم المئة من السياسيين كأضحية عن المدينة كي يهدئ من غضبه أوخس الدموية، بينما اصطحب معه خمسمائة من وجهاء الشعب مع أغصان الزيتون، توسلاً للسلام الذي غدر به «أوخس» وأخل بوعوده نحوه، بعد أن أكد وعده به لمبعوث تنيس «ثيتاليون». ولو كان تنيس خائنًا لما كان اصطحب معه خمسمائة من مواطنيه البارزين مع أغصان الزيتون، بل لما كان استطاع أن يصطحبهم، لو لم يكن قد وثق بوعد أوخس وأمل بإنقاذ المدينة بعد تقديم المتهمين بالثورة لمصيرهم المحتوم.
فهو كان منطقيًا واقعيًا عندما وعد الفرس بمعاونتهم في احتلال مصر. فقد كانت هناك سابقة لصيدون في هذا المضمار في عهد قمبيز الفارسي، حيث ساعدت الجيش الفارسي ونالت مكافأة لذلك مدينتي يافا ودور، كما يذكر النص أشمونعزر ابن تبنت ملك صيدون.
إنه، بلا شك، تذكر خدمات الصيدونيين للفرسن وشاء التلويح بها. وكان يمكن لهذا العرض أن ينجح مع أي سياسي، غير أوخس، الحاكم الدموي، فهذا لم يراع حرمة أو يحفظ عهدًا في حياته. عندما مات والده قام بإخفاء خبر موته طوال عشرة أشهر داوم خلالها على إصدار المراسيم بختم والده. وبين هذه المراسيم كان مرسوم تسميته وليًا للعهد . كما مع اعتلائه للعرش قتل جميع أخوته وأخواته، وهم كانوا بالعشرات .
وهكذا لم يكن نكثه لوعده عملية نادرة، بل إننا نفترض أن تنيس كان يعرف هذا السلوك منه، ولذا طلب منه عقد العهد لمبعوثه «ثيتاليون»، بإعطائه يده اليمنى، أي للالتزام بوعده، وفق تقاليد الفرس، أمام جميع حاشيته والمسؤولين الحاضرين في ديوانه.
ولعل الحلقة الضعيفة التي كانت في خطة تنيس هي ائتمانه قائد المرتزقة «منتور» الرودسي. فيبدو أن خيانة هذا القائد الآتي من مصر هي التي أدت إلى استغناء أوخس عن تنيس والصيدونيين. أطلعه تنيس على سره وأشركه معه. ولم يكن ليفعل ذلك لو أن منتور كان مخلصًا لمصر التي أرسلته. والفرس كانوا ألدّ أعدائها آنذاك. كما لم يكن ليفعل لو أنه حقًا كان يريد تخليص نفسه فقط، دون مدينته؛ لأنه في هذه الحالة لا يبقى بحاجة للمرتزقة ومسؤولية رواتبهم.
لقد آمن تنيس، كما يبدو، بالعلاقة العميقة بين صيدون والإغريق، فكشف لهم عن مخططه إيمانًأ منه بصوابية هذا المخطط، وبضرورة تأييده من قبل أي فريق عقلاني محايد، وبخاصة إذا كان هذا الفريق يتقاضى راتبه من المدينة التي يعمل لإنقاذها، كما هو وضع منتور ومن معه من المرتزقة. ولكن هذا غدر وخان مسؤوليته، فاتصل بالفرس، منافسًا تنيس في تقديم العروض لهم لمساعدتهم في احتلال مصر التي كانوا قد فشلوا في حملة سابقة ضدها (44:16).
لقد كان منتور الجسر الذي عبر عليه الجيش الفارسي، ليس إلى صيدون وحدها سنة 351ق.م.، بل إلى احتلال مصر أيضًا سنة 344ق.م. فهو سرعان ما نجده قائدًا هامًا لدى الفرس، وحاكمًا رئيسًا لمناطق الساحل الآسيوي. كانت مهمته الأساسية تجنيد المرتزقة من الإغريق للجيش الفارسي. وقد منحه أوخس مرة مئة وزنة من الفضة مكافأة له. كما عينه قائدًا في القيادة العليا. وهو كرَّر عمليات خداعه ونكثه للعهود، فسلم «هرمياس» حاكم «أطرناوس» للفرس، بعد أن طمأنه إلى العفو عنه. كما استعمل أختامه لأمر أتباعه بتسليم مدنهم للفرس، كما يخبرنا بذلك ديودورس (47:16-52).
وكانت خيانة منتور سببًا في فقدان الثقة بين المصريين والمرتزقة الإغريق في جيشهم. ولعله كان الوسيط لخيانة بعض هؤلاء، عند وصول الجيش الفارسي إلى مصر. وقد دخل أوخس إلى مصر، كما دخل إلى صيدون، معتمدًا على خدمات منتور وأمثاله. وفي مصر انتهك حرمة المعابد فيها، بعد فرار ملكها إلى أثيوبيا، وكان اسمه حسب ديودورس «نكتانيبوس» (نختينيحب). وكان لديه عشرون ألفًا من مرتزقة الإغريق، ومثل هذا العدد من الليبيين (الأفارقة)، بالإضافة إلى ستين ألفًا من المصريين المحاربين (47:16).
وإن الباحث يفاجأ بسكوت المؤرخ ديودورس الصقلي عن سلوك منتور الرودسي اللاأخلاقي المذكور، بينما يسرع باتهام تنيس الصيدوني بالخيانة، ولا يورد شرحًا لسبب قيام «أوخس» بإعدامه، بعد استلامه صيدون منه.
والتفسير الأقرب إلى العقل والمنطق في مجرى الحوادث هو أن تنيس كان مخلصًا ويحاول إنقاذ مدينته، وليس نفسه فقط، من براثن «أوخس» الدموي، وقد دفع حياته ثمنًا لهذا الإخلاص. بينما كان المرتزق منتور مغامرًا انتهازيًا، غدر بتنيس وصيدون وقدمهما ثمنًا مقنعًا للمركز الذي تولاه لدى الفرس بعد ذلك.
أما عملية انتحار الصيدونيين بحرق أنفسهم، فلم يرد لها ذكر عند غير هذا المؤرخ. وقد ورد ذكر صيدون كمدينة عامرة بعد عشرين سنة فقط، خلال حملة الإسكندر المقدوني، وأنقذ بحارتها الكثيرين من أبناء صور عندما تغلب الإسكندر على مدينتهم. وهذا يدعونا للشك برواية ديودورس والمصادر التي استقى منها معلوماته. وهي حدثت قبل زمنه بأكثر من «250» عامًا.