د. يوسف الحوراني
أرض الحوار
أرض العربية اليوم، وقبل أن يكون لها اسم وحدود، هي منذ أناسها الأول أرض اللقاء والحوار والتغيير…
كانت مع بدء تاريخ الإنسان مهدًا للاستقرار والبناء والتشريع من أجل الأمن والسلام. في أرض العراق ووادي النيل وشواطئ بلاد كنعان وسهولها نشأت أولى المجتمعات الرعائية، ثم الزراعية فالمدنية، كما تفيدنا بذلك نبشيات علم الآثار.
في هذه الأرض وعى الإنسان بعض ذاته، فبدأ يحاور الطبيعة حوله حوار جدل وفهم، يعطيها باذلاً من جهده وحكمته ليأخذ منها ما يستطيع أخذه، حتى إذا ما نمت خبراته تكوَّن لديه عالم إنساني مستقل في اللغة والفكر والحلم بالغد. هذا الغد الذي غدا هاجسًا ليومياته ليس لجمع مؤنه واتِّقاء طوارئه وحسب، بل بالغد المفتوح الذي لا تحدّه نهايات أو موت.
آمن بالكلمة فعل خلق وتغيير، فخالها سحرًا يتجسد بها كل عمل وإرادة سيادة، أو إبداع مفيد. ومن الإيمان بالكلمة كان الحوار شرطًا لديه للاستمرار واجتياز العقبات.
كان مقدامًا في إبداعاته، فصوَّر أفكاره على ألواح الطين وورق البردي لإشراك الآخرين معه، فكانت له الكتابة الأولى التي غدت مقاطع كلمات تعاملت بها جميع الشعوب المجاورة دون حرج أو شعور اغتراب. وعندما اجتهد أكثر من أجل الآخرين صور الصوت ذاته ونشره في العالم ليكون ما هو للإنسانية اليوم «أبجدية» تتفاهم بها جميع شعوب الأرض، فتجمع من خلالها قدراتها لغزو الفضاء…
«كسر جناح الريح» وصنع شراعًا يسيِّر به زورقه في النهر والبحر ليتواصل مع الآخرين البعيدين. قيل خمسة وأربعين قرنًا أنشأ مدارس للثقافة باسم «إدبا» ليكون له تراث وليحفظ حقوق الناس ويعلم أجيال المستقبل خبرة أجيال الماضي وحكمتهم. ومن ظاهرة المدرسة والمكتبة نشأ أول حوار للتغيير، إن لم يكن بين الشعوب المختلفة فبين الأجيال القديمة والأجيال الجديدة. ولا نعجب إذا ما عرفنا أن ملاحم الأبطال وقصص حكماء الأرض وتشريعات المشرعين انتشرت لدى جميع الشعوب المجاورة. فهي كتبت لكل الناس ومن أجل القيم والأخلاق النبيلة، وليس لاستتباع الآخرين أو التسلط عليهم بذرائع التفوق أو امتلاك القوة وفرصة النجاح.
فهل ليس حوارًا ثقافيًا عبر الزمن أن نكون لا زلنا نتعامل بما حفظته لنا مكتبات شوروباك وأوروك ونيفر وإسن من مبادئ للرياضيات وتقسيمات للزمن ومبادئ للعدالة وتنظيمات اجتماعية متعددة؟ إنها من بلاد العراق القديم الغارق اليوم بالدماء لغياب ذهنية الحوار…
كانت قمة تجليات حضارة المعرفة القديمة في أرض العربية قيام «أشوربانيبال» بجمع المعارف الإنسانية في جرار مكتبة قصره في نينوى، وذلك حدث قبل نشوء الإسكندرية التي جمعت مكتبتها معارف الإغريق والمصريين القدماء، بأكثر من ثلاثمائة عام.
ولدينا حدث تاريخي يشهد لموقع الثقافة البابلية ودورها الحواري المعرفي في صنع السلام. هذا الحدث يمكن اعتباره رمزًا لارتباط المعرفة بالسلم وعلاقتهما معًا بدور أرض العربية ورسالتها في رعاية العلاقة بين الشرق والغرب. في سنة 585ق.م، كانت هناك حرب دامية بين الشرق والغرب، أي بين الفرس والإغريق آنذاك. وكان الفيلسوف «طاليس» الفينيقي الأصل، قد تنبأ للمحاربين بكسوف الشمس، معتمدًا على أرصاد الكلدانيين وسجلات بابل وأشور الحافظة لهذه الأرصاد. وعند حدوث هذه الظاهرة توقف الجيشان عن الاشتباك رهبةً منهما من سلطان الغيب، وتدخل بينهما وسيطان للصلح، أحدهما من كيليكيا السورية، وآخر من بابل العراقية؛ وخططا لقيادة الجيشين علاقات زواج ومصاهرة من أجل ديمومة السلام بينهما، كما يذكر ذلك المؤرخ هيرودوت (75:1).
ولكي يكون المرء وسيطًا كما كانا لا بد من كونه مسالمًا للفريقين. وهذا ما كانته بلاد العربية آنذاك، برغم خضوعها للفرس. كما نعرف ذلك من تقسيمات الولايات الفارسية التي أوردها هيرودوت (95:3).
بقيت هذه البلاد وسيطة بين الشعوب بجغرافيتها بين قارات ثلاث وبعرقيات سكانها وذهنيتهم المسالمة المبدعة. حيث طوروا الثقافة الهلينستية وقدموا للعالم الأفكار الأولى العالمية، المتجاوزة للقوميات والعصبيات خلال الفلسفة «الرواقية». ثم خلال المسيحية التي رفعت الحواجز بين الطبقات واللغات بمبدأ المحبَّة والتسامح. وقد قدمت بلاد العربية للعرش الروماني مجموعة من الأباطرة الكبار مع أشهر نساء التاريخ الروماني من بنات عائلة حمصية سورية، هن: جوليا دومنا، وجوليا ميزا، وجوليا سومياز، وجوليا ماميا. وهذه الظاهرة التاريخية وحدها خلال العهد الروماني تجعل هذه البلاد عصيَّة على التصنيف بين الشرق والغرب، ويكرِّس وضعها هذا النص القرآني الكريم القائل: «وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس.» (البقرة: 142). وهذا كان جوهر الرسالة المحمدية العدنانية قبل تفصيلاتها بانتشار الدين الإسلامي بين مختلف الشعوب والطبقات دون تمييز.
وتأتينا شهادة تصديق حديثة من علماء الآثار الحريصين دائمًا على مبدأ التصنيف. فهؤلاء العلماء عندما أدهشتهم الكشوفات الإبداعية لدى بعض الشعوب من سومريين وحوريين وميتانيين بحثوا عن رابط لغات هذه الشعوب مع سلالات أوسع معروفة، كالساميين والهندوأوربيين، فلم يجدوا أي رابط عرقي أو لغوي، وعندئذ اعتبروهم من أبناء الأرض ذاتها وأطلقوا عليهم تسمية «آسيانيين» تمييزًا لهم ممن تشملهم تسمية آسياويين نسبة لآسيا. وعند التعمق في الفيلولوجيا نجد عددًا كبيرًا من المفردات السومرية والحورية لا تزال قيد الاستعمال اليومي في اللغة العربية الحاضرة، بعاميتها وفصحاها، عدا عن توارث تسميات المدن والقرى، كما هي دون أي تغيير أو إبدال، حتى ولو كانت تلال آثار وبقايا خرائب، فهي مشمولة بتسمية «بلاد العربية» التي يتداولها الناس وتسود فيها اللغة العربية.
***
خلال التجارب التاريخية المتعددة نجد أن الثقافة الهلينستية وحدها بما تضمنته من اعتراف بحقوق الشعوب والأقليات ودعوة للمشاركة بالموائد الإنسانية العامة، كما كان الاصطلاح، هذه الثقافة نجدها تماثل ما يطرحه عالم الغرب اليوم بعنوان «الديمقراطية». وخليق بالبلاد التي طوَّرت تلك الفكرة العالمية وأوصلتها إلى مبادئ المسيحية مع بولس الرسول والإسلام مع علي بن أبي طالب وباقي الحكماء، خليق بها أن تطور هذه الأطروحة دون حروب ودماء، لتوصلها إلى ما يمكن أن تكون للعالم من أجل السلام ومعارف السلام. وهذا فعلاً ما نجده أو نتلمس ملامحه الأولى الباكرة في التجربة اللبنانية للديمقراطية الشاملة للجماعات إلى جانب حقوق الأفراد، أي ديمقراطية المجموعات، سواء العرقية أم الطائفية الدينية.
إنه الواقع الجغرافي التاريخي الإنساني، ومن حق هذه الأرض أن تعتبر تاريخها تراثًا إنسانيًا عامًا يستحق عناية المجتمع الدولي والسهر على حقوق إنسانها.
موضوع الحوار
في خاتمة محاضراته الرائدة في فلسفة التاريخ خلص الفيلسوف الألماني جورج ويلهلم هيغل إلى القول: «… إن تاريخ العالم ليس سوى تطور لفكرة الحرية… التي هي في حقيقتها الوعي الوجداني للحرية وليس أقل من ذلك.»
وهو رأى أن التاريخ يسير من الشرق الذي هو «آسيا» بالتحديد إلى الغرب الذي هو بالمطلق «أوروبا»، حيث تنتهي مسيرته. هذا ما ذكره في فاتحة محاضراته. وقد لفتنا إلى أن هذا التحديد هو نسبي في أرض كروية، وتشرق شمس مادية من شرقها لتغيب في غربها، حيث تشرق شمس من وعي الذات، فتنشر أشعة هي الأكثر نبلاً…»
كان هذا أبرز طرح للموضوع في زمن محاضرات هيغل سنة 1830م، وهو عمم فشمل مجموع آسيا ومجموع أوروبا في تصنيف الشرق والغرب، بينما كان هذا التصنيف محدودًا بالإغريق والفرس في الماضي، وغدا مع المسيحية، محصورًا بكنيسة شرقية وكنيسة غربية، أو أنه كان خلال الإمبراطورية الرومانية محدودًا بشرقها وغربها فقط.
أدرك هذا الخطأ التصنيفي بعض المفكرين الأوروبيين وشاؤوا إخراجه من منطق الجغرافيا فاستعملوا تعريفًا رمزيًا استعاروه من الميثولوجيا، متفقين به مع ما أراده هيغل من موضوع وعي الحرية الإنسانية في ذهنية الأفراد. وصفوا الذهنية الأوروبية بأنها «أبولونية» نسبة إلى «أبولون»، رب الإبداع والفنون، والشرقية «الديونيسية» نسبة لرب العواطف الدينية والعقائد الغيبية «ديونيسوس». وكان من هؤلاء «نيتشيه» في القرن التاسع عشر و«اسبنغلر» في أوائل القرن العشرين. وكان هذا التصنيف أقرب إلى التعريف المباشر: ذهنية العلم وذهنية الدين. وهذا ما تطرحه للحوار مشاكل الإنسانية المعاصرة في كل موقع واتجاه.
أما الفكرة التي طرحها هيغل حول نهاية التاريخ في أوروبا، وهي ما جدَّدها «فوكوياما» الياباني الأصل، فهي موضوع نظر ومنطلق حوار يستحق الاعتبار في طروحات الثقافة وبناء السلام من أجل كل الناس…
كان الشرق بعيدًا في زمن هيغل والغرب كان قريبًا منه قبل بروز أميركا. ولو حدثت موجة المد البحري المدمر «تسونامي» آنذاك، كما حدثت في 26/12/2004 لما عرف بها العالم، إلاَّ بعد أشهر وكأنها حكايات يصفها «ماركوبولو» للأوروبيين. ولكنها وللمرة الأولى تشعر الإنسانية بأنها الطبيعية ذاتها تواجه كل الناس على السواء، وعلى الجميع التعاون للمواجهة. وهذا ما حدث عند جمع مليارات الدولارات لإغاثة المنكوبين دون أي تساؤل عن دينهم أو اتجاهاتهم السياسية. وقد بدأت حركة الإغاثة هذه بعد ساعات فقط من وقوع الكارثة.
لقد غدا العالم أجمع اليوم ضمن إطار تاريخي واحد، هو الإطار العائلي، عائلة الإنسان. وهذا ما لم يكن في أية حقبة تاريخية ماضية. وهو يعني أن محرك التاريخ بدأ يأخذ مجرىً جديدًا بعيدًا عن الحقد والعداء القومي أو الديني أو الطائفي الذي لا زال مألوفًا حتى اليوم.
وليس من طرح عملي أصلح من الطرح الهيغلي: «الوعي الوجداني للحرية». فهو فقط يوصل إلى هذا المجرى السلمي بين الشعوب والمعتقدات. وقد حقق للشعوب الأوروبية ما هو بينها اليوم من تجاوز للعداء التاريخي وتعاون كبير من أجل خير كل أناسها والمتصلين بهم.
الوعي الوجداني للحرية هو الشعار الصالح للحوار بين الشرق والغرب. وليست الحرية الوجدانية المقصودة هنا هي التحرر من الآخرين، بل التحرر من كل المفاهيم التاريخية والعقائدية التي تحول دون الاقتراب من هؤلاء الآخرين والتعاون معهم بتكافؤ وثقة متبادلة. وقد أثبتت الوقائع أن عملية التحرر هذه لا تتم بالكتابة والتبشير والحوار الخطابي وحده، لأن الحريصين على عزلة مجتمعاتهم مستفيدون من تغذية هذه العزلة والوصول بها إلى التطرف ونشر قيم خاصة بهم وبها، وبالعداء للآخرين كمسلَّمة منطقية يقيسون عليها مخططات مستقبلهم وتقدمهم وانتصاراتهم ورؤى ما بعد حياتهم.
حوار التاريخ المعاصر
بدأ الحوار التاريخي المعاصر بين الغرب والشرق مع وصول حملة نابليون الفرنسي إلى مصر. هذه الحملة كانت بحق تحمل معها مشروع ثقافة حوارية حضارية، وضعت أساسًا لمفاهيم الحرية والمساواة والكرامة التي قامت لأجلها الثورة الفرنسية. ولم يكن هذا المشروع الحواري مرتجلاً أو ملحقًا فقط بالحملة العسكرية. فالذي يتابع النشاط الثقافي الفرنسي، وحـرص هذا النشاط على تفهم المجتمعات العربية، ودراسة ذهنيتها خلال ملاحظات المستشرقين والعلماء الفرنسيين الذين أقاموا في المنطقة، قبل حملة نابليون، يجد أن هذه الحملة اعتمدت أولاً على التخطيط الثقافي العملي لها. وهنا نورد ما كتبه ونشره «فولني» الفرنسي عن وضع المجتمع المصري قبل وصول نابليون بأكثر من عشر سنوات. فهو يذكر أن الأتراك كانوا يحذرون من نشاط الفرنسيين في مصر، بينما كان المصريون يتوقعون «انقلابًا في الحكم والدين والمصير…». كما يذكر في نهاية الفصل الثالث من كتابه المعنون «سياحة في سوريا ومصر خلال السنوات 1783-1785م». وفي مطلع الفصل السابع يكتب قائلاً: «… لقد عرف العرب كيف ينتصرون ولكنهم لم يعرفوا قط سياسة الإدارة.»
وحول الحرية وكرامة الإنسان يورد الوصف التالي: «… يسفك دم الرجل كما يسفك دم الثور، والقضاء ذاته يريق الدم دون أي تقيًّد بصيغة أو بشكل. فضابط الليل في طوافه وضابط النهار في تجواله يحاكمان ويحكمان وينفذان في لمحة بصر. يرافق كلاً منهما جلاّدون يقطعون الرؤوس عند أول إشارة يتلقونها، ويلقونها في أكياس من الجلد تجنبًا لتدنيس الأرض.» هذا ما أورده في الفصل الثاني عشر عن حالة الشعب في مصر. وحين يستطرد في وصفه لحالة الشعب في الفقرة ذاتها يقول: «… وما يحدث غالبًا أن يساق إلى محكمة «البك» الجشع رجل بوشاية تقول أنه ذو مال، فيفرضون عليه أداء مبلغ منه. وإذا أنكر قلبوه على ظهره وجلدوا قدميه مائتين أو ثلاثمائة جلدة، وقد يموت بهذه الطريقة… وللتخلص من اغتصاب ذوي السلطان كان على الناس أن يتظاهروا بالفقر والبؤس.»
يقابل هذه اللوحة الواقعية التي نقلها فولني عن المجتمع المصري نقرا لدى المؤرخ المصري «الجبرتي» لوحة مناقضة سجلها لسلوك الجيش الفرنسي بإعجاب وترحيب. فهو كتب قائلاً عن محاكمة الرجل الذي اغتال القائد الفرنسي «كليبر»:
«… خبر الواقعة وكيفية الحكومة لما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكِّمون العقل ولا يتدينون بدين وكيف وقد تجارى (تجرأ) على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم، بل رتَّبوا حكومة ومحاكمة وأحضروا القاتل وكرروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول ومرة بالعقوبة… بخلاف ما رأينا بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذي يدعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية.» (عجائب الآثار: ج3، ص116).
كان عبد الرحمن الجبرتي خريج جامعة الأزهر الإسلامية وهو ابن فقيه مصري. ولم يمنعه دينه الإسلامي من الترحيب والإعجاب بالمفاهيم الحضارية التي تعطي الإنسان حقوقه وتحترم كرامته. وبذلك يكون قد رحب بالمشروع الثقافي الفرنسي برغم رفضه للمشروع العسكري.
ولم يبق موقف الجبرتي موقفًا فرديًا في مصر، بل غدا موقف مجتمع بكامله مع تولي محمد علي للسلطة بعد رحيل القوات الفرنسية. فهذا جاء إلى مصر لمحاربة الجيوش الفرنسية، وما لبث أن تولَّى السلطة في مصر بطلب من المصريين أنفسهم. وقد تبنَّى المفاهيم الفرنسية للحضارة والإنسان، فأنشأ المدارس وأرسل بعثات للدراسة في فرنسا وحفر وأنشأ أقنية للري ونشر الأمن في أرجاء البلاد وأدخل إصلاحات عديدة، فنهض بمصر إلى مستوى متقدم وحارب التطرف الديني دون هوادة وبخاصة الحركة الوهابية في الجزيرة العربية، معتمدًا على جيش درَّبه له ضباط فرنسيون.
كانت نهضة مصر على يد محمد علي حصيلة حوار حضاري بين شرق وغرب. وكان من الطبيعي أن تنتشر هذه التجربة فتعم الإمبراطورية العثمانية بأكملها لولا تدخل الغرب ذاته لإيقافها دون وعي تاريخي لأهميتها ومحاذير توقفها. وهنا أرى من حقنا كمؤرخين أن نكشف الاعتبارات التي أعاقت مسيرة التقدم الحضاري في بلادنا بعد انطلاق شرارته الأولى في تلك الحقبة التاريخية من أرض مصر، لعل في هذا الكشف عظة للسياسيين.
لقد سار إبراهيم باشا ابن محمد علي على رأس جيش منظم تنظيمًا حضاريًا، فاحتل فلسطين وسوريا واتجه نحو البلاد العثمانية. وكانت المراكب الحربية العثمانية قد لجأت إلى مصر تخلصًا من الفوضى في الدولة العجوز. اجتازت الجيوش المصرية جبال «طورس» وأوشكت على السيطرة على السلطة. وعندها تدخلت مجموعة من الدول الأوروبية المناهضة لفرنسا، وكان على رأسها بريطانيا، فأنذرت محمد علي بالتوقف والاكتفاء بحكم مصر وحدها، فأطاع وعقد معاهدة معها سنة 1840م. وبذلك تأخر تحرر المنطقة من التخلف العثماني ما يقارب ثمانين عامًا عانى منها الأهلون الكوارث نتيجة للظلم وسوء الإدارة والثورات العبثية التي كان يحركها العثمانيون في سوريا ولبنان تحت راية الأديان والطوائف ورفض الخضوع لنزوات الحكام. وكانت حصة جبل لبنان وحده منها مائة ألف قتيل ماتوا من الجوع بسبب حصار العثمانيين بين 1914 و1918م.
كانت حجَّة بريطانيا هي الحرص على ممتلكات الدولة العثمانية، لكن الغاية الخاصة كانت مقاومة النفوذ الفرنسي الذي تحقق مع المشروع الثقافي الذي أخذ به محمد علي في مصر. وهنا نشدد على المشروع الثقافي الفرنسي دون العسكري، لأن فرنسا ذاتها أوقفت الحملة المصرية العسكرية على بلاد اليونان، عندما حاول المصريون إخضاع هذه البلاد للسلطة العثمانية التي كانت تحتلها، بينما هي تناضل من أجل استقلالها.
وحرصًا على إبراز حجم الخطأ التاريخي الذي قامت عليه معاهدة لندن المذكورة لنقص في الوعي الثقافي، نورد مقارنة بين جيش إبراهيم باشا بإدارة الضباط الفرنسيين وجيش العثمانيين التقليدي، وقد أورد هذه المقارنة كاتب دمشقي مجهول الاسم تحت عنوان «مذكرات تاريخية» فقال بلغته العامية:
«… وعساكر السلطان باركه (محتلة) في حمص. وصار لهم أربعة اشهر يتجمعوا وخبَّصوا كثير في إقامتهم هناك. إذ رعوا كل زرع حمص وفضحوا هلقدر نسوان وبنات أحرار وقطعوا الطرقات وعملوا عمل يرثى له. وأما إبراهيم باشا فجميع عساكره من حين طلوعه من مصر إلى أن وصل للشام ما عمل ثقلة على أحد… حتى في محل الأوردي (المعسكر) شجر المشمش حامل (نازل) فوق رؤوسهم ما كان أحد يسترجي يمد يده يقطع مشمشه ولا أحد يقدر يتّطلع (ينظر) في حرمة أو في ولد، لأن أولاد كثير بين العساكر في الأوردي ما أحد يقدر يتطلع فيهم.» (ص60)
ولم تكن بريطانيا ومصالحها بعيدة عن كابوس التخلف العثماني. فمذكرات هذا الكاتب الدمشقي المجهول تذكر أن القنصل البريطاني «فارن» المعين لدمشق لم يستطع الدخول إلى المدينة إلاَّ بعد سيطرة إبراهيم باشا عليها. فهو بقي مقيمًا في بيروت طوال أربع سنوات لأن التقاليد في تلك المدينة كانت لا تسمح بأن يركب الأجنبي غير المسلم جوادًا.
وقد دخل القنصل بموكب فخم وبرفقته أربعة وعشرون مرافقًا فوق الخيول يرفعون الأعلام، واستقبله أمير لواء على رأس ألف جندي. (ص94)
والسؤال هنا: هل لو كانت بريطانيا تعير الشأن الثقافي الحضاري اهتمامًا مثيل فرنسا التي أرفقت جيشها بجيش آخر من العلماء والباحثين والخبراء في فنون التطوير الحضاري، كان يبقى الشرق الأدنى مقفلاً في وجه الحضارة الغربية حتى الحرب العالمية الأولى؟
لقد كانت أبرز المستفيدين من التقدم المصري الذي توَّجه شق قناة السويس بإدارة مهندس فرنسي. فهي تمكنت بالشراء من امتلاك النصيب الأكبر من هذه القناة التي سهلت لها علاقاتها بمستعمراتها في الشرق.
وقد دام التجاهل للشأن الثقافي في بلاد الشرق، ومن قبل بريطانيا ذاتها، خلال الحرب العالمية الأولى. فهي التي رعت نشوء الدول العربية بعد الحرب، بل وعينت حدودها، دون أي اعتبار للكوامن الثقافية التي كان يعالجها محمد علي وفق مبادئ الثورة الفرنسية الثقافية. بل إن المؤرخ الذي يطلع على المساومات السياسية بين فرنسا وبريطانيا وبوجه ما تركيا، لا يتردد في الحكم بأن التسويات التي حدثت بينها تمت دون أي اعتبار تاريخي أو تقدير مستقبلي لما يمكن أن ينشأ من سلطات بعيدة عن ثقافة الحكم وحقوق الشعوب، إن لم تكن تصر على نشر الجهل والتضييق على المستنيرين كي تبقى هي المستبدة المتسلطة على مقدرات البلاد.
تذكير للاعتبار
لقد طغت المطامح السياسية والأطماع الاقتصادية الآنية حتى الآن على كل القيم الإنسانية والاعتبارات الثقافية، لدى القادة والمخططين الغربيين. وليس من النادر أن يحصل الطغاة والمستبدون على دعم ومساندة تعادل المساندة التي كان أسلافهم يقدمونها للدولة العثمانية وسلطاتها الجائرة. وحين نعتبر الثقافة شاملة للتربية المدنية والعملية والتنظيم الإداري والسياسي والوعي لحقوق الفرد وواجباته نحو مجتمعه ونحو الآخرين، لا نجد أحدًا من الغرب تقدم بمشروع ثقافي، أو ساند على الأقل بصدق على نمو هذا الاتجاه الثقافي لدى الشعوب الشرقية، منذ حملة نابليون الفرنسي حتى عهد قريب، حيث بدأنا نرى تبرعًا ببعض الخبرات البريطانية بوجه خاص…
ولا أجدني أحسد المؤرخ البريطاني المنصف عندما يكتب عن مقاومة بلاده لمشروع محمد علي الذي كان يحارب التطرف الديني ويحاول القضاء عليه في مهده وفي كل مظاهره وسلوكياته، بعد أن غدا هذا المهد ذاته يتنكر له ويحاربه. عنيت بذلك الدولة السعودية المعاصرة التي تستنكر التطرف الديني الذي غدا خطرًا على كل مجتمع يوجد فيه.
كما لا أحسد المؤرخ الألماني عندما يكتب عن تحالف بلاده مع الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وسكوتها عن سلوك هذه الدولة مع رعاياها في القارات الثلاث. وبخاصة بعد أن تنكر الأتراك ذاتهم لدولتهم، وانقلبوا على مفاهيمها بقيادة كمال أتاتورك. فهل لم يكن ذلك انفصامًا ألمانيًا بين الوجه الثقافي الفلسفي والفني لألمانيا ووجهها السياسي غير العابئ بمدلول الحريات والقيم الإنسانية؟
ومع ذلك كانت ألمانيا وستبقى لنا بلاد هيغل وكانت وغوت وبيتهوفن وكاسيرر وغيرهم من كبار المثقفين المبدعين.
وأخيرًا ماذا سيكتب المؤرخ الأمريكي عن مسؤولية بلاده في تغذية العصبية الدينية في «أفغانستان» وغيرها، بحجة مقاومة الشيوعية الملحدة؟
فهل غير سياسة بلاده «البراغماتية» السطحية مسؤولة عن خلق حركة «طالبان» والقاعدة وإرهابيي العالم الانتحاريين بفعل التطرف في فهم الدين، والدين منهم براء…؟
إنه غياب الثقافة والوعي التاريخي عن السلطات السياسية والأطماع الاقتصادية. ولو كان للمخططين في الحروب من يثقفهم بالتاريخ لعرفوا وترددوا في استغلال الدين، عرفوا أن عصبية الخوارج قضت على علي بن أب طالب أنبل مفكري الإسلام وعصبية الدين المسيحي أحرقت «برونو» وسجنت «غاليليه» وأحرقت الآلاف من الرجال والفتيات الجميلات انتصارًا للدين. وهي إن تكن برزت بوضوح مع منتحِّري برجي نيويورك وآلاف الضحايا فيهما فمجراها لا يزال مفتوحًا لاحتضان كل من فقد الاتجاه نحو الوعي الوجداني للذات، كما افترضه هيغل لزمننا التاريخي الحديث…
ولعلَّ المشكلة المطروحة للحوار والعمل الآن هي ما مثلته فوضى بلاد العراق إن لم يكن نيابة عن كل الشرق فعن شرقنا وحده، الشرق الإسلامي العربي. وقد لخص بيان للزرقاوي أحد قادة تنظيم «القاعدة» المتطرفين هذه المشكلة بقوله عن الانتخابات الديمقراطية وفق الطريقة الغربية: «الحكم لله وليس للشعب، لأن الديمقراطية مبنية على مبادئ غير إسلامية مثل: حرية المعتقد وحكم الشعب وحرية التعبير والفصل بين الدين والدولة وتشكيل أحزاب سياسية وحكم الأكثرية.» والمرشحون للانتخابات هم أدعياء للربوبية والألوهية. (الحياة: 24 كانون الثاني 2005).
ومقابل هذا الموقف الإيماني الغيبي باسم الدين نسمع ونقرأ عن حوار أوروبي واقعي جرى بين المشرعين العاملين لوضع دستور للاتحاد الأوروبي بتاريخ 7/6/2003، حيث رفضوا ذكر الدين أو الله في الدستور، لأنهم لا يريدون إلزام الأجيال المقبلة بمعتقدات الأجيال السالفة كما قالوا.
وهكذا نجد أمامنا موقفين ثقافيين متناقضين يبحثان عن حوار يوفق بينهما… غير مهملين التذكر بأن أسلاف الفريق الأول قدموا للإنسانية علماء مثل: البتَّاني، الخوارزمي، ابن الهيثم، ابن سينا، الكندي، وابن رشد وابن خلدون وأمثالهم.
بينما أسلاف الفريق الثاني الحريص على حرية الفكر والاعتقاد حتى لأجيال الأحفاد، كان بينهم أيضًا من أحرق كتب العلم والمعرفة واضطهد العلماء وجمع الجيوش لمحاربة الشرقيين تحت راية الدين والاعتقاد بمكافآت السماء…
وحين وعينا لهذه الجدلية التاريخية بين فريقين، لا نجد لدينا ما يؤهلنا للتدخل سوى الإيمان بأنه لا بدحوار من الوصول إلى كلمة سواء، حين الاستمرار والإصرار…