Sunday, February 27, 2011

دراسة في تاريخ صيدون الثانية

دراسة في تاريخ صيدون الثانية
من 677 ق.م. حتى 332 ق.م.
بقلم د. يوسف الحوراني
باحث في التاريخ الحضاري

موقع صيدون القديمة
كان لدمار صيدون على يد «أسرحدون» سنة 677 ق.م. صدىً كبير في الإمبراطورية الأشورية. وقد وجدت هذه الحادثة مسجلة في السجلات التاريخية البابلية التي تذكر أن صيدون سقطت في السنة الرابعة لأسرحدون. وفي شهر تشرين من السنة الخامسة قطع رأس ملكها وأحضر إلى أشور، بينما رأس حليفه ملك «كندو وسيزو» أحضر إلى أشور في شهر آذار. وفي نسخة لسجلات أسرحدون محفوظة في المتحف البريطاني، وقد نشرها الباحث «سدني سميث»، يرد ذكر تاريخ سقوط صيدون في السنة الرابعة وإحضار الرأس إلى أشور في السنة الخامسة، ولا يرد ذكر لراس ملك «كندو» حليف الملك الصيدوني .
ويذكر نص أسرحدون أن صيدون كانت في وسط البحر، بينما يذكر نص لوالده صيدون الكبرى وصيدون الصغرى. وهذا ما يجعلنا نرجح وجود تجمعين سكنين منفصلين في صيدون، أحدهما في البحر، إذ من المستبعد أن تكون مدينة صغرى منفصلة عن مدينة كبرى في البر دون سبب يبرر هذا الانفصال.
ونحن نقرأ نص فيلون الجبيلي المنسوب لسانخونياتن، فنجد أن صيدون هي ابنة «بونتس»، أي البحر . وهذه الملاحظة الميثولوجية كبيرة الأهمية كقرينة في موضوع بحثنا عن موقع صيدون الأولى.
كما بعد سقوط صيدون الأولى بما يزيد على مئة وعشرين عامًا، نقرأ أن أشمو نعزر الثاني كتب على ناووسه أنهم بنوا بيتًا لعشترت في صيدون أرض البحر (يم)، وأسكنوا فيه «عشترت» باحتفالاتٍ عظيمة؛ ثم بيتًا لبعل صيدون، وبيتًا لعشترت سمية البعل. كما نقرأ نصًا لبدعشترت، حفيد «إشمو نعزر» هذا أنه بنى أيضًا معبدًا في صيدون البحر (بصيدون شمم رمم أرض رشفم صيدون مثل) .
وما يهمنا من هذا النص هو ذكر صيدون البحر، لأن القراءات التي نشرت له غير مقنعة ونحن نرجح قراءة «كلير مون غنو» التي يرى فيها أن الأسماء هي أسماء أحياء في صيدون وجوارها.
وهنا نذكر أن نص فيلون الجبيلي عن سانخونياتن يعرّف «سممروم» بأنه اسم لشخص مبدع هو ابن لآخرين كبار، منهم: كاسيوس ولبنان وانتيلبنان وبراثي، وقد تسمت هذه الجبال بأسمائهم. ويورد مدلول الاسم باللغة اليونانية بكلمة «هبسورانيوس» التي تعني «علو السماء». ويتابع النص فيقول أن هيسورانيوس هذا سكن مدينة صور وابتكر فيها بناء الأكواخ بالقصب وورق البردي، ثم اختلف مع أخيه «أوزوس» الذي اكتشف الألبسة لحماية الجسم وصنعها من جلود الحيوانات التي كان يقبض عليها .
وهذا يجعلنا نرجح أنه اسم لمكان تابع للجبل وليس صفة لمعبد أو بناء. كما أن كلمة «أرض رشف» قد تكون كنية لموقع. إذ أن الإله «رشف» اشتهر بالحرب والقتال وتظهر صورته غالبًا كمحارب يحمل ترسًا وحربة بيده اليسرى وعصًا بيده اليمنى. وقد وصف خلال النصوص الفرعونية بأنه «الإله العظيم، رب الأبدية، أمير الخلود، سيد القوة المضاعفة بين رفاقه الآلهة، إله عظيم، سيد السماء، سلطان الآلهة» .
وهنا لا نستبعد أن تكون تسمية «أرض رشف» كنية لموقع صيدون الأولى المدمَّر، وبخاصة أن اسم رشف مكتوب بميم الجمع في اللغة الفينيقية. وهذا التفسير ينسجم مع تعريف نص أشمونعزر بأرض سهل شارون، حيث توجد مدينتا دور ويافا بأنها أراضي داغون، أي إله الزراعة والحنطة. والاسم هو للإله «داغون» الذي غدا اسمه كنية للأرض في السطر 19 من النص.
ذكر أسرحدون أنه دمر المدينة ونقض أساساتها وألقاها في البحر. وهذا التشديد على الأساسات يعني أن هناك قيمة إنشائية لها. وهذه لا بد أنها كانت في البحر لتكون لها هذه القيمة، وهي إما لحماية الجزيرة من الماء أو لوصل صخرة بأخرى، كي يتصل البناء ويكون فوق جزيرة، كما فعل حيرام في جزيرة صور. كما أن إلقاء الأساسات في البحر يتطلب أن يكون البحر قريبًا منها، إن لم يكن محيطًا بها. وهكذا جميع الإشارات ترجح أنه كانت هناك أبنية فوق جزيرة من حجم ما.
وما لدينا اليوم هو صخرة القلعة البحرية، فهي محاطة بالماء، وآثارها تشير إلى أنها كانت تحتوي معبدًا، لا تزال بقاياه تظهر في جدران القلعة، وأبرزها الأعمدة التي استعملت أفقيًا في الجدران لتقوية البناء.
كما أن آثار البناء في الجزيرة المستطيلة، شمال الميناء، وعلى بعد أكثر من مئة متر من القلعة البحرية، تشير إلى أن هذه الجزيرة كانت عامرة بالسكان في زمنٍ ما. فهل يمكن أن تكون هذه الجزيرة جزءًا من صيدون البحرية، أو التي في البحر كما يقول النص...؟؟
إن الدراسات الأثرية الحالية لا تشجع على اعتبار صيدا الحالية تقوم في موقع صيدون الأولى، وإن يكن بعضها يثبت موقع صيدون الثانية المعاصرة للإسكندر.
قد جرت محاولات هامة للكشف عن موقع صيدون الأولى. فقام العالم الفرنسي «موريس دونان» بدراسة الموقع السكني جنوب المدينة، فظهر لديه أن السكن فيه يعود للعصر النيوليتي، أي الألف الخامس قبل الميلاد. وركام السكن في الموقع يمتد على مساحة محورها من الشرق إلى الغرب يبلغ تسعمائة متر، وهي بيضوية الشكل، وعرضها من الجنوب إلى الشمال ستمائة وخمسون مترًا، وعلوها المتوسط 22,95 مترًا والأعلى فيها 39,70 مترًا. وفي المنخفض بين مرتفعين تمر الطريق العامة باتجاه صور .
كما قام العالم اللبناني المرحوم «روجيه صيدح»، بعمليات نبش في حي الدكرمان بين 1967 و1972 خلال أربع حملات في هذا الموقع جنوب المدينة الحالية. وهو نبش مساحة الفين وخمسمائة متر من مساحة إجمالية تغطيها البساتين، قدرها بعشرات الهكتارات.
تبين أن المساكن التي يغطيها الرمل، بين ثلاثة وخمسة أمتار، كانت بيضوية الشكل وهي تعود لنهاية القرن الرابع قبل الميلاد. وقد جرت دراسة خمسة وعشرين منزلاً منها. وظهر في بقايا هذه المنازل آثار تعود للعصر الحجري كان العالم الألماني «فون لاندو» قد أشار إليها في كتاباته. وأحد هذه المنازل المكونة من غرفة واحدة يبلغ 7,20 × 7,65م من الخارج، وفيه مساحة سكنية تقارب عشرين مترًا مربعًا، وبناء الجدران منحنٍ إلى الداخل.
ولعل أوسع هذه المنازل هو ما أعطي الرقم «2»، حيث تبلغ مساحة السكن فيه خمسين مترًا، كما ظهر سور حول هذا التجمع السكني بلغت سماكة بنائه مترين، وعلوه ثلاثة أمتار. وهو متقن البناء من الخارج .
هكذا يبدو تاريخ مدينة صيدا، موغلاً في القدم. لكن الذي يحاول الاعتماد على النبشيات الأثرية لهذا التاريخ يصطدم بوجود حلقات مفقودة، لا تزال هي ذاتها التي واجهت «رينان» الفرنسي في أواسط القرن التاسع عشر. فهو لاحظ أن القبور في مغارة «أبلون» تعود للعهدين «الأشوري» و«الإخميني»، بينما رأي أن تاريخ صيدا المدني يعود على الأقل لألف سنة قبل ذلك. وجميع ما وجد في هذه القبور لا يتفق مع وجود البلدة الغنية المزدهرة. وقد علل ذلك بعمليات سرقة القبور، واعتبرها السبب الأساسي في غياب الآثار المناسبة للمدينة . ولكن الجواب لم يكن مقنعًا لأن هذا الفراغ يبرز في كل عمليات السبر التي جرت في أرض صيدا.
قام «دونان» بعملية سبر جنوب سور المدينة الحالية، فوجد قرب الشاطئ قبرين لطفلين يعودان لزمن الهكسوس. ولكنه لاحظ عدم وجود آثار تعود لعصر الحديد أو عصر البرونز الثالث. كما لاحظ أن صيدون الفارسية كانت غنية فوق المألوف .
كما كان الفرنسي «كونتنو» قام بعملية سبر شرقي القلعة البرية، فبلغ عمق ثمانية عشر مترًا من سطح الأرض. وهناك ظهرت بقايا تعود لنهاية الألف الثاني قبل الميلاد وأوائل الألف الأول. كما لاحظ وجود آثار هزّة أرضية حدثت لجدار تحت سبعة أمتار من الردم.
قام بفحص نظرية رينان الذي قال بوجود ميناءين في صيدا يماثلان ميناءي صور الشمالي والجنوبي. لكنه لم يعثر على أي أثر للقناة المفترض أن تربط بينهما، لا كعمل في الصخر ولا كوجود طبيعي. وقد اتفق عدد من الباحثين مع كونتنو في هذا الرأي، ومنهم الأب «بوادبار» والباحث «لوفريه». وهذان رأيا أن من المحتمل أن لا توجد آثار في الميناء الحالي تعود لما قبل العهدين الروماني والهيليني .
ولكن الباحث «إيزلن»، الذي وضع كتابًا عن تاريخ صيدون، يرى أن الميناء الجنوبي كان يستعمل في أقدم الأزمنة، حين كان البحارة يسحبون زوارقهم فوق الرمال، حين ينتهون من استعمالها فوق الماء. وهو رأى أن الميناء هذا أوسع من الميناء الشمالي، حيث يمتد من الشمال إلى الجنوب ستمائة ياردًا وما يقارب أربعمائة من الشرق إلى الغرب، وفتحته إلى البحر من الغرب هي ما يقارب مئتي ياردًا، وشاطئه رملي بمعظمه، وهو مملوء حاليًا بالرمال.
هو رأى أن المقابر المكتشفة حتى زمنه لا تعود أية منها إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد. كما افترض أن موقع المدينة القديمة يمتد إلى الشمال من المدينة الحاضرة، أي حتى نهر الأولي، حيث يكون معبد أشمون في قلب المدينة، بينما هو يبعد الآن عن البوابة الشمالية حوالي ألفين وتسعمائة ياردًا، إلى الشمال الشرقي، وألفين وخمسمائة ياردًا عن الحدود الجنوبية لمقبرة «القياعة»، وأربعة آلاف وأربعمائة ياردًا عن مدفن «أشمنعزر»، وألفًا ومئتي ياردة إلى الشمال من بلدة «البرامية»، حيث نبشت عدة نواويس منحوتة.
أخذ إيزلن هذه القياسات في السنوات الأولى من القرن العشرين. ويذكر أن عدد سكان صيدون في سنة 1896 كان أحد عشر ألفًا من مختلف الطوائف .
وإذا افترضنا أن المدينة التي كانت في العهد الروماني هي ذاتها المدينة المعاصرة للإسكندر، فإن حجرًا للمسافات وضعه الرومان في وسط المدينة سنة 198 للميلاد يعين موقع هذه المدينة آنذاك، حيث نفترض أنه كان في وسطها. وهو يبعد مسافة سبعمائة وثلاثين مترًا إلى الشرق من سور المدينة التي كانت في نهاية القرن التاسع عشر. هذا ما رآه «إيزلن».
وهكذا يبقى موقع مدينة صيدون الأولى مجهولاً. وقد افترض إيزلن أنها لا بد كان قسم منها فوق إحدى الجزر الصغيرة المواجهة للشاطئ الشمالي أو الشاطئ الغربي لكون «أسرحدون» يحدد وجود المدينة في وسط البحر. وأن هذا التأكيد يعود إلى اعتبار وجود القصر الملكي وتحصيناته في ذلك المكان .
وهنا لا بد من الإشارة إلى حادثة طبيعية نقل خبرها سترابو عن «بوزيدونيوس»، وهي «إن مدينة فوق صيدون ابتلعتها الأرض بفعل هزة أرضية، وكذلك ما يقارب ثلثي مدينة صيدون قد غرق، ولكن ليس دفعة واحدة. ولهذا لم تحدث خسائر في حياة الناس.»
وهذا التفصيل في الرواية يجعلها مقبولة. وبوجه خاص عندما تنسب إلى عالم فذّ مثل «بوزيدونيوس» الأفامي، الفيلسوف الذي اشتهر بالتوثيق العلمي في أمثال هذه المواضيع، وهو عاش بين «135 و51 ق.م.».
لا أذكر أني قرأت إشارة إلى خبر «بوزيدونيوس» هذا عند أحد من المعنيين بتاريخ صيدون الأولى. لكن التفاصيل الواردة فيه من حيث الغرق البطيء للمدينة تجعله مقبولاً وصالحًا لاعتماده في عملية بحث عن آثار داخل المياه الساحلية لصيدا.
إن هذا الافتراض وحده يحل مشكلة غياب آثار صيدون الأولى، هذه المشكلة اللغز التي حملت «رينان» إلى القول: «حتى اكتشاف المقبرة العظيمة سنة 1855م. يمكن القول أن صيدون القديمة، أم كنعان، قد اختفت بكاملها.»
* * *
لقد كان نص أسرحدون واضحًا، وهو أنه نقل المدينة من مكانها، وأجلى سكانها إلى بلاد «أشور» وأسكن في مدينته الجديدة شعوبًا جاء بها من منطقة الخليج ومن الجبال. وهنا نفترض أن الإجلاء لم يكن كاملاً، وإن يكن تدمير المدينة كان تامًا. ويقودنا إلى هذا الافتراض وجود الجبال القريبة من صيدون، حيث يمكن للفارين من الحرب اللجوء إليها والاحتماء بغاباتها ومغاورها. كما يمكن أن ينجو الفارون من الحرب في البحر وهو مفتوح أمامهم، وهم معتادون على الإفادة منه. ولا بد أن يكون الكثيرون منهم لجأوا إلى صور وبيروت وأرواد. ونحن بالفعل نقرأ لدى سترابو خبرًا عن مثل هذه الهجرة. حيث ذكر عن جزيرة أرواد: «الشعب يعيش في مساكن من عدة طبقات، وهي منشأة كما يقولون لمهاجرين من مدينة صيدون.» ويمكننا اعتبار نشوء بلدة باسم «صيدون» في الجبال كان حصيلة أمثال هذه الحالة.
ولا نستطيع أن نحكم في أية نكبة من نكبات صيدون نزح هؤلاء إلى «أرواد»، لكن وجودهم هناك أنموذج لما كان يحصل في أمثال حالتهم مع أسرحدون.
كما نذكر أن مدينة صور وملكها «بعلو» دفعت ضريبة ثقيلة، وقدمت، كرهائن، بنات ملكها لأسرحدون الذي سلخ عنها ما يتبعها من أراضي وبلاد على البر . وذلك لتتجنب الكأس الذي شربته جارتها وشقيقتها صيدون. ومن شأن هذه الحالة أن تكون صور فتحت أبوابها وقدمت سفنها لاستقبال الفارين والناجين من أبناء صيدون مع خبراتهم. وربما الكثير من ثرواتهم وعلاقاتهم التجارية مع بلاد البحر. وهذا ما يفسر اتساع نفوذ صور وازدياد مناعتها مما جعلها تصمد في حصار «نبوخذنصر» لها الذي دام ثلاثة عشر عامًا بعد دمار صيدون بأقل من مئة سنة.
كانت سياسة ملوك أشور تقوم على تذكية الخصومة بين المدن المتنافسة، كما في صور وصيدون، وذلك بتذكية الصراع بين العائلات الحاكمة. كما كانت تعتمد عملية إجلاء سكان وإبدالهم بغيرهم. وقد سجل سفر الملوك الثاني عملية إجلاء حدثت في عهد «تغلاتبلاصر»، فقال: «… جاء تغلاتبلاصر ملك أشور وأخذ عيون وآبل بيت معكه ويانوح وقادش وحاصور وجلعاد والجليل، كل أرض نفتالي وسباهم إلى أشور.» (29:15).
هذه البلاد معظمها يقع في الجنوب اللبناني. وهي كصيدون محاطة بجبال وغابات ولا يمكن لأية عملية إجلاء أن تكون تامة، ما دامت هناك ملاجئ يفر إليها رافضو الابتعاد عن أرضهم. وهذا ما يبدو أنه حدث مع الصيدونيين. فنحن نقرأ اسم «بل حرَّان شادوا» كحاكم للمدينة التي أنشأها أسرحدون في صيدا «كار أسرحدون» وذلك سنة 650ق.م. ولكن في الوقت ذاته نقرأ رسالة من قائد عسكري جاء إلى صيدون لتهدئة ثورة في البلاد الساحلية، وهو يُدعى «بل إبني» يقترح فيها على «أشوربانيبال»، خليفة أسرحدون قاهر صيدون، كما يعرّف نفسه، يقترح أن ينقل عشرين صيدونيًا إلى بلاد الخليج ليجهزوا له مراكب هناك .
هذا يعني أن الصيدونيين تابعوا نشاطهم البحري كشعب، وإن يكونوا قد فقدوا سيادتهم السياسية وأضحوا تحت سلطة حاكم أشوري.
حلَّ «أشوربانيبال» (668-633ق.م.) محل والده في قيادة عمليات الحرب. وقاد حملة عسكرية لاستعادة مصر التي كانت تمردت على والده. وقد عدد نص له أسماء اثنين وعشرين ملكًا رافقوه في هذه الحملة، وهم من ملوك الشواطئ والجزر. وبين هؤلاء ذكر «دموزو» ملك قرطاجة و«بوزوزو» ملك نورا (في سردينيا). ويذكر في مقدمة هؤلاء بعل ملك صور، ثم «ملكياشابا» ملك جبيل و«يقينيلو» ملك أرواد مع ملوك المنطقة. ولا يذكر شيئًا عن صيدون .
والسؤال هنا هو: هل كانت قرطاجه ونورا تتبعان سياسيًا مدينة صور وتلتحقان بسياستها أينما اتجهت؟
فهما، في هذا النص، يرد ذكرهما كمدينتين من مدن الساحل اللبناني، وليس كما هما في بعدهما الجغرافي. ولم يرد أي ذكر لحملة ضدهما، ولكنهما اشتركتا في الحملة الأشورية لإخضاع مصر.
ونقرأ في سجلات أشوربانيبال هذا أنه في حملة على بلاد الأنباط، في غزوته التاسعة لإخضاع العرب، عرَّج على مدن الساحل، وقتل بعض سكان «أوشو» (صور البرية)، لامتناعهم عن دفع الضرائب وعصيانهم حكامهم، واستعبد القادرين منهم، وسلب تماثيل معبوداتهم وأرسلها إلى بلاد أشور، مع الباقين من الأحياء .
ولم يرد ذكر لصور في هذه الغزوة، مع أنه ذكر عصيان «عكو»، وكيف أنه علق أجساد العصاة من أبنائها على سواري حول المدينة، وسبى الآخرين إلى بلاد أشور.
وهذا يعني أن صور كانت تتبع سياسة حكيمة مسؤولة تجاه السلطة الأشورية المتجبرة. وقد بقيت مستقلة وملجأ لأبناء صيدون وأمثالهم ممن دمِّرت بلادهم. ونجد صدى هذا الوضع لمدينة صور في نص لحزقيال الذي تنبأ بعد عهد أشوربانيبال بقليل من الزمن، حيث يقول: «أهل صيدون وأرواد كانوا ملاحيك. حكماؤك يا صور الذين كانوا فيك هم ربابينك، شيوخ جبيل وحكماؤها كانوا فيك نجاروك.» (8:27).
* * *
لم تغب صيدون طويلاً عن المسرح. ويبدو أن السكان الذين أحضرهم أسرحدون إلى «كارأسرحدون» لم يلبثوا أن تأقلموا مع محيطهم المتحضر وأهملوا الاسم الجديد للمدينة. وهكذا لم يستطع أي قرار ملكي أن يلغي اسم صيدون. وقد عادت للظهور مجددًا بعد سقوط دولة أشور سنة 612ق.م. وبروز دولة البابليين. فما أن استولى نبوخذنصر على السلطة حتى راح أرميا النبي يهدد الشعوب والمدن بسيفه، فيذكر «… وكل ملوك صور وكل ملوك صيدون وملوك الجزائر التي في عبر البحر.» (22:25).
كما أرميا يذكر ملكًا لصيدون عند قوله: «هكذا قال الرب لي: اصنع لنفسك رُبُطًا وأنيارًا وأجلعها على عنقك وأرسلها إلى ملك أدوم وإلى ملك مؤاب وإلى ملك بني عمون وإلى ملك صور وإلى ملك صيدون بيد الرسل القادمين إلى أورشليم… والآن قد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذنصر ملك بابل عبدي، وأعطيته أيضًا حيوان الحقل ليخدمه، فتخدمه كل الشعوب وابنه وابن ابنه حتى يأتي وقت أرضه أيضًا.» (2:27-7).
ويشير أرميا هنا إلى حلف كان في طريق الانعقاد لمقاومة البابليين الجدد بتشجيع من المصريين، الذين كانوا يعملون لاستعادة نفوذهم في المنطقة. وأهمية نصوص أرميا هنا هي في أنه كان معاصرًا لتلك الفترة، حيث عاش بين «650 و585ق.م.». وهو يذكر أن صيدون كانت تساند الفلسطينيين «بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين لينقرض من صور وصيدون كل بقية تعين، لأن الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور (كريت).» (4:47).
ويشمل النبي حزقيال (593-571ق.م.) بعد زمن أرميا بقليل، يشمل جميع الفينيقيين باسم الصيدونيين حين يقول: «هناك أمراء الشمال كلهم وجميع الصيدونيين الهابطين مع القتلى برعبهم خزوا من جبروتهم، واضطجعوا غلفًا مع قتلى السيف.» (30:32).
لقد اغتنم المصريون فرصة سقوط الدولة الأشورية «وصعد الفرعون نخو ملك مصر على ملك أشور إلى نهر الفرات.» (الملوك الثاني 29:23). وكانت فينيقيا ضمن البلاد التي احتلها المصريون. ولكن نبوخذنصر انتصر على المصريين في معركة كركميش سنة «605ق.م.» بعد معارك قاسية. ويبدو أن الفينيقيين لم يناصروا المصريين في هذه المعارك، بل التزموا الحياد. ولهذا نقم هؤلاء عليهم. ويبدو أن صيدون كانت أولى القوى التي قاومت نفوذ المصريين في المنطقة عند عودتهم إلى المسرح. فنقرأ لدى المؤرخ الإغريقي هيرودت أن أول عمل قام به الفرعون خفرع (588-568ق.م.) هو إرساله حملة عسكرية ضد صيدون، بعد أن اشتبك في معركة بحرية مع الصوريين .
ويبدو أن حملته هذه كانت لمعاقبة الفينيقيين الذي خذلوا أسلافه في حربهم مع البابليين الجدد.
وحسب رواية «ديودورس» الصقلي، فإن «خفرع» المصري هذا غزا قبرص وفينيقيا واحتل صيدون ودمرها بعنف، ليثير الرعب بعمله لدى المدن الفينيقية الأخرى . وكان المصريون قد أدخلوا عنصرًا جديدًا في الصراع بينهم وبين ملوك أشور وبابل. وهذا العنصر هو المرتزقة الإغريق. وكان خفرع هذا أنجح الملوك السابقين من أجداده، كما يرى هيرودت. هو حكم بين 588 و568ق.م.
وبعد معركة كركميش سلمت المدن الساحلية أمرها لنبوخذنصر المنتصر باستثناء مدينة صور التي رفضت الخضوع له، كما كانت رفضت الخضوع للمصريين قبله. وهكذا حاصرها طوال ثلاثة عشر عامًا من 585 حتى 572ق.م. ويبدو أنه لم يتغلب عليها، لأننا نقرأ لدى حزقيال سخرية منه، حيث يقول: «كل رأس قرع وكل كتف تجردت، ولم تكن له ولا لجيشه أجرة من صور لأجل خدمته التي خدم بها عليها.» (18:29).
ترك نبوخذنصر كتابة في وادي «بريسا» في شمال سهل البقاع اللبناني يكشف فيها نوع العلاقة التي نشأت بينه وبين اللبنانيين، ومنهم أبناء صيدون، كما يبدو. فهو يقول:
«في ذلك الوقت كان لبنان الجبل، غابة مردوخ الفخمة، ذات الرائحة العطرة وشجر الأرز العالي الذي قد لا يريده إله آخر أو يقطعه ملك آخر أراده «نابو ومردوخ» كزينة مناسبة لمقام حاكم السماء والأرض. (هذا اللبنان) كان يحكمه عدو غريب تسلّط عليه وسلبه خيراته، فتشرّد شعبه هاربًا إلى البعيد. وإيمانًا مني بقوة سيديّ نابو ومردوخ نظمَّت جيشي متجهًا إلى لبنان.
«جعلت ذلك القطر سعيدًا بعد استئصال عدوِّه من كل مكان وجد فيه. وأعدت سكانه المشردين إليه، إلى مساكنهم. وهذا ما لم يعمله أي ملك سابق. لقد مهدت جبالاً صعبة وقطعت صخورًا وشققت ممرات وأنشأت طرقات مستقيمة لنقل خشب الأرز.»
وفي قول نبوخذنصر بأنه فعل ما لم يفعله ملك قبله إشارة واضحة إلى إعادة أبناء صيدون المشردين على يد الأشوريين، وإن يكن الزمن بدا بعيدًا، منذ أسرحدون. كما أن النص يرينا أن العلاقة بين الفينيقيين والبابليين الجدد كانت علاقة صداقة ووئام.
لقد دام تردد نبوخذنصر على المنطقة طوال ما يقارب من نصف قرن. وقد عاد معه اسم ملك صيدون يبرز إلى جانب ملوك المنطقة. كما قد لاحظ «موريس دونان» وجود آثار هندسية بابلية للآلهة المحليين في معبد أشمون قرب صيدا .
ولعهد نبوخذنصر هذا نعيد استعمال تسمية «صرفند» في المنطقة لمقامين، الأول قرب صيدا والآخر قرب جبل الكرمل، باعتبار أن الاسم يعود للإلاهة «صربنيد» رفيقة الإله مردوخ البابلي.
وتذكر قوائم الأتباع والموظفين «حنونو» رئيسًا لتجار الملك، والاسم فينيقي، مما يشير إلى نفوذ الفينيقيين التجاري في المملكة البابلية.
وكانت نتيجة هذه العلاقة بين فينيقيا وأرض الرافدين أن اتجهت مصر إلى الاستعانة بالاغريق لنشاطاتها البحرية. وقد غدا للأيونيين والكاريين شأن كبير في مساندة السلطة وتثبيت الدولة المصرية. وأعطي هؤلاء أرضًا للبناء والإقامة في «ممفيس». كما أخذ أبناء المصريين يتعلمون اللغة اليونانية، كما يخبرنا بذلك المؤرخ هيرودت (154:2).
وهذا الموضوع يفسر لنا الحرب البحرية التي وقعت بين الفرعون «خفرع» ومدينة صور. فقد كان بحارة مصر من الأيونيين والكاريين. وقد أشار نص لنبوخذنصر إلى وجود جنود من الإغريق في الجيش المصري .

العهد الفارسي
سقطت الدولة الكلدانية البابلية بأيدي الفرس سنة 538ق.م. واعتبر هؤلاء أنفسهم ورثاء شرعيين لجميع البلاد التابعة لها على شواطئ المتوسط. وكانت صيدون قد ازدهرت في ظل الحكم الكلداني وبرزت كمدينة هامة على شاطئ المتوسط بعد غياب صور عن البر طوال ثلاثة عشر عامًا أثناء حصار نبوخذنصر لها.
جاء الفرس بوجه جديد في السياسة فوعوا جيدًا أهمية العلاقات التجارية التي كانت لمدينة صيدون مع البر والبحر. ولهذا اعتمدوها مركزًا سياسيًا وإداريًا لهم. واعتبروا الفينيقيين بوجه عام حلفاء لهم في مواجهتهم للنفوذ الإغريقي المتصاعد في البحر الأبيض المتوسط. وهؤلاء بدورهم أدركوا أهميتهم كحلفاء، فلم يكونوا يتصرفون كأتباع يطيعون الأوامر المعطاة لهم، وإنما كان لهم رأي في مجرى الأحداث. فهم، مثلاً، ساعدوا قمبيز الفارسي في غزو مصر سنة 525ق.م. ولكن عندما أراد إكمال فتوحاته بغزو قرطاجه رفض الفينيقيون ذلك، فتراجع عن الفكرة، وذلك لأنهم كما يقول هيرودت «كانوا متطوعين بإرادتهم في جيشه، وكانت قواته البحرية جميعها تعتمد عليهم.» (19:3). وكان الصيدونيون، كما سنرى، عماد البحرية الفينيقية.
نالت صيدون حظوة عظيمة لدى الفرس، فوسعوا سلطتها ووهبها «قمبيز» الفارسي مدينتين في سهل «شارون»، هما: دور ويافا. كما نقرأ ذلك على نصب أنشأه الملك الصيدوني «أشمنعزر الثاني» . وذلك مكافأة لمساعدتها في غزوة مصر.
كان الفرس حكماء في تعاملهم مع الشعوب التي خضعت لهم. فهم في أول عهدهم، وفي زمن «كورش» و«قمبيز»، كما يخبرنا بذلك هيرودت، لم يفرضوا ضريبة منظمة محدَّدة على الآخرين، بل كان مدخولهم يصل مما يقدم لهم كهدايا وتقدمات طوعية من هذه الشعوب (91:3). وهذا لم يكن مألوفًا من الإمبراطوريات المتعاقبة السابقة.
ولكن بعد أن نظموا إدارة الإمبرطورية في عشرين ولاية، رسموا ضرائب تدفعها هذه الولايات وفق إمكانات كل منها، ولكنها على أية حال لم تكن ضرائب مرهقة بالنسبة لما كان الأهلون يدفعونه في الماضي.
كانت البلاد الفينيقية في الولاية الخامسة عشرة الممتدة من حدود كيليكيا حتى حدود مصر. وتشمل جزيرة «قبرص». وكانت تدفع «350» وزنة من الفضة سنويًا فقط. كانت المدن الفينيقية مستقلة، ولها ملوك جرى ترتيبهم في جلوسهم في البلاط الملكي على الشكل التالي، كما يذكرهم المؤرخ هيرودت: ملك صيدون أولاً، ثم ملك صور، ثم ملك أرواد، ثم ملك كيليكيا (98:7 و68:8).
وكان ملوك البلاط مستشارين لدى الملك، لا يقدم على عمل حربي دون أخذ رأيهم. وكانت المدن الفينيقية تعقد اجتماعات مشتركة بينها في مدينة طرابلس وذلك لاتخاذ القرارات المهمة لمستقبلها. وكانت طرابلس هذه مؤلفة، حسب اسمها من ثلاثة أحياء: واحد يخص أرواد والثاني يخص صيدون والثالث يخص صور . وكان مرزبان الولاية الفارسية وقادة الجيش يقيمون في مدينة صيدون الكبرى. وهذا ما أعطاها فرصة عظيمة للازدهار الاقتصادي، بينما جعلها تحت رقابة صارمة في علاقاتها السياسية.
كانت تسمية صيدونيين تعني من هم أكثر من سكان المدينة، حيث نقرأ لدى الكاهن «عزرا» عند حديثه عن إعادة بناء هيكل أورشليم «وأعطوا فضة للنحاتين والنجارين ومأكلاً ومشربًا وزيتًا للصيدونيين والصوريين ليأتوا بخشب أرز من لبنان إلى بحر يافا حسب إذن كورش ملك فارس لهم.» (7:3).
كانت صيدون المرفأ الرئيسي الذي يعتمده الفرس في البحر الأبيض المتوسط. ولهذا عندما أراد «داريوس» إرسال بعثة استكشاف إلى بلاد الإغريق مع الطبيب الإغريقي «ديموكيدس» جاءت البعثة إلى صيدون، وجهزت مركبين حربيين وسفينة تجارية شحنوها بالسلع التجارية الثمينة، كما يخبرنا هيرودت (137:3).
لقد اختص الصيدونيون بالقيادة البحرية لدى الفرس. ويخبرنا المؤرخ الإغريقي المذكور أن أرتحشستا الأول، خلال حملته على بلاد الإغريق، أنه أمر بإجراء سباق بين السفن في بحر «أبيدوس»، وكان يراقب المتسابقين، فنجح الصيدونيون بكسب السباق وسر الملك بذلك سرورًا عظيمًا (47:7).
كما يقول في وصفه للجيوش والسفن التي تضمنتها الحملة: كانت أسرع السفن، السفن الفينيقية، وأفضلها كانت الصيدونية (96:7). وقد اشتهر «امنستوس ابن أنيسوس» (أنيس) من صيدون في هذه الحملة. وكان الصيدونيون أبرز المحاربين البحريين في الجيش الفارسي، بينما الأثينيون كانوا الأبرز لدى الإغريق. كما يذكر ذلك المؤرخ ديودورس الصقلي (13:11)، حين وصفه لإحدى المعارك.
وإننا نقرأ لدى هيرودت عندما كتب بإعجاب عن سفن «أرطميسا»، الهليكارنسية «جهزت خمس سفن حربية، كانت الأشهر في الأسطول (الفارسي)، بعد الفريق الصيدوي» (101:7). أي أنه استثنى سفن صيدون من المقارنة لكونها لا تقارن، من حيث تفوقها.
ونقرأ لديه أن أرتحشستا حين أراد استعراض قواته البحرية صعد إلى سفينة من سفن صيدون، وجلس تحت مظلة ذهبية، وأبحر بمحاذاة السفن الراسية يسأل عن كل سفينة، ويتلقى الأجوبة فيسجلها (101:7).
هكذا نرى أن مدينة صيدون ازدهرت بفعل عوامل مختلفة، أبرزها صراع صور الطويل مع المصريين والكلدان، وغيابها عن التجارة البرية بفعل هذا الحصار. ثم، كما يرى «إيزلن»، التركيب الشعبي المتنوع لمدينة صيدون بعد أن أسكن فيها أسرحدون جماعة من الغرباء، الذين كانوا لها علة ازدهار طوال مئتي عام .
وقد كان محقًا في هذه النظرة، فالصيدونيون الجدد، بتركيبتهم المختلطة، ابتعدوا عن العصبية العائلية والقبلية، وسادت روح التنافس بينهم واتسعت علاقاتهم التجارية وتنوعت.
ومن خلال روايات هيرودت نستنتج أن الفينيقيين كانوا الجناح البحري للجيش الفارسي. فهو يذكر أن «أونسيلوس» من سلاميس في قبرص، عندما علم بأن الفرس يعدّون لغزو الجزيرة، طلب النجدة من المدن الأيونية. واجتمع قادة هذه المدن في قبرص. فخيرهم القبارصة بين أن يحاربوا الفرس على الأرض أو الفينيقيين في البحر، فرد الأيونيون بقولهم أن مجلس أيونيا العام أرسلهم ليحرسوا البحر وليس لتسليم سفنهم لغيرهم ومحاربة الفرس على اليابسة (109:5). وهذا كان في زمن داريوس الأول (521-485ق.م.).
كما نقرأ لدى ديودورس الصقلي، أنه خلال حرب أسبرطه والفرس انضمت تسعون سفينة حربية ثلاثية إلى القائد الفارسي «كونون»، كانت عشر منها من كيليكيا وثمانون سفينة من فينيقيا بقيادة قائد الصيدونيين، كما يقول النص (79:14).
وكما يخبرنا هيرودت: أعادوا «أياكس» إلى الحكم في «ساموس» (26:6). وبينما كان «هستياوس» محاصرًا جزيرة «ثازوس» بقوة كبيرة من الأيونيين جاءته أخبار بأن الأسطول الفينيقي غادر «مليطا»، وهو ينوي مهاجمة المدن الأيونية. فترك الحصار مباشرة واتجه بجيشه إلى «لسبوس» (30:6).
ويخبرنا أيضًا أن سكان بيزنطيا ومدن خلقيدونيا المقابلة، المجاورة، فرُّوا إلى شواطئ البحر الأسود تجنبًا لغارات الفينيقيين (34:6). وهم كانوا احتلوا مدن الشواطئ لصالح الفرس باستثناء كارديا (35:6).
كانو يقومون بدور الشرطة البحرية لصالح الفرس. فيذكر لنا هيرودت أن السياسي الاثيني «ملتيادس» ما أن علم أن الفينيقيين موجودون في «تنيدس» حتى شحن أمتعته على خمس سفن ثلاثية وأقلع باتجاه «أثينا»، منطلقًا من «كارديا»، فالتقى بالفينيقيين الذين أسروا سفينة له، كانت تقل ابنه الأكبر «متيوخس». وقد سلموا هذا لداريوس الذي أحسن استقباله (41:6). أما ذنب ملتيادس فهو كان قد وافق على تدمير جسر فوق نهر «الدانوب» الشهير.
ومن يطّلع على مشاركة الفينيقيين في الحرب الفارسية ضد الإغريق يتساءل عما إذا كانت هذه الحرب هي حربهم هم لمنافسيهم الجدد آنذاك أم حرب الفرس ضد الإغريق.
لقد كانت المنافسة حامية في المجال التجاري والاستعماري بين الفينيقيين والإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت مسؤولية صيدون كبيرة في هذا المجال. فهي العاصمة الإقليمية للولاية الخامسة عشرة. وهي الوجه البارز للفينيقيين في البلاط الإخميني. كما هي المستفيد الأكبر من هزيمة الإغريق. ولهذا استفادوا من العداء الفارسي للإغريق، وربما ساعدوا في تغذيته، واشتركوا في الحرب بملء رغبتهم فيها، وليس كتابعين مأمورين، وإنما كفريقين التقت مصالحهما معًا.
كان الفرس قد اصطدموا بالتوسع الاستعماري الإغريقي في بلدان آسيا الصغرى. كما كان الفينيقيون، بوجه عام، بدأوا يحسون بمضايقة الإغريق لهم في مستعمراتهم في جزر المتوسط.
جنّد أحشويرش الأول (485-465ق.م.)، حملة على بلاد الإغريق، بلغ عدد جنودها مليونًأ وسبعمائة ألف جندي، حسب تقدير المؤرخ هيرودت (63:7)، الذي عاش قريبًا من ذلك الزمن (ولد بين 490 و480ق.م.). وبلغ عدد السفن المشاركة في الحملة ألفا ومئتين وسبع سفن حربية. كانت مساهمة الفينيقيين والفلسطينيين منها ثلاثمئة سفينة (86:7).
كانت بحرية صيدون مجلية في هذه الحملة. ولكن نزق الملك الفارسي جعل الفينيقيين يتقاعسون في اندفاعهم، ففشلت الحملة.
وقصة هذا التقاعس هي أن الفينيقيين بنوا جسرًا لعبور المضيق بين أوروبا وآسيا فوق المراكب البحرية، مستخدمين حبال الكتان لربط المراكب. والمصريون بنوا جسرًا موازيًا، مستخدمين حبال البردى. وبعد أن انتهى إنشاء الجسرين هبت عاصفة قوية، لم تكن في الحسبان، فجرفت الجسرين معًا. فغضب عندئذ الإمبراطور الفارسي جدًا وأمر بقطع رؤوس المسؤولين عن إنشاء الجسرين (36:7).
كما جاءه بعض الفينيقيين يشكو له خيانة بين أتباعه من الأيونيين، مما جعلهم يفقدون سفنهم، فاتهمهم بالخيانة وأمر بإعدامهم بدلاً من أن يحقق في الموضوع (90:8). وهكذا كان نزقه سببًا في تراخي أتباعه وحلفائه، فهُزم جيشه.
لكن، وحتى في حال الهزيمة، كان للفينيقيين دورهم، حين استعان بتجّارهم لإنشاء جسر وكاسرات للموج، كي يعبر معه جيشه المهزوم (98:8). كما هو فرّ على سفينة فينيقية، مجتازًا إلى البر الآسيوي، مع مجموعة من النبلاء الفرس. وكانت هذه الرحلة نهاية علاقة الود بين الصيدونيين والإمبراطور المهووس. فقد هاج البحر وكانت السفينة مثقلة بالركاب من الحاشية الملكية، فسأل الإمبراطور القبطان عن طريقة للحفاظ على حياته الملكية، فأجابه القبطان بأن الطريقة الوحيدة هي تخفيف الحمولة. وعندئذ طلب الإمبراطور من أتباعه إثبات ولائهم له. وبدون أية كلمة أو نقاش ألقوا بأنفسهم في الماء لافتداء الملك بتخفيف حمل السفينة.
وعند وصوله سالمًا إلى البر دعا القبطان الفينيقي، الذي كما يبدو كان من القادة، ومنحه تاجًا ذهبيًا مكافأة له لإنقاذه حياته، ثم أمر بقطع راسه، لكونه تسبب بموت عدد من الفرس.
وعلق هيرودت على هذه الرواية، مستنكرًا تصرف الملك الفارسي، لكون هذا كان بإمكانه إلقاء عدد من البحارة الفينيقيين في الماء وإنقاذ المركب (118:8) حسب قوله.

العلاقة مع الإغريق
لقد استفاد الفينيقيون من دورهم البحري ضمن الإمبراطورية الفارسية؛ عندما بدأ الفرس يتدخلون في السياسة الداخلية لبلاد الإغريق، حيث يناصرون مدينة ضد أخرى ويحاربون مع فريق ضد الفريق الآخر، كان الفينيقيون غالبًا آداة التنفيذ لهذه السياسة. ونحن نعيد صداقة صيدون للأثينيين إلى هذه الحالة السياسية، حيث ناصر ابناء صيدا أبناء أثينا في حربهم ضد أسبرطه، وجعلوهم ينتصرون في معركة «كنيدس» البحرية سنة 394ق.م. كما يخبرنا بذلك ديودورس الصقلي (83:14).
لقد نشأت علاقة مودة بين صيدون وأثينا. كان تتويجها معاهدة «بروكسينيا» أي العلاقة الفضلى بين شعب أثينا وستراتو (عبد عشترت) ملك صيدون. وهذه المعاهدة تعفي الصيدونيين من الضرائب المفروضة على الغرباء في جميع بلاد «أتيكا». كما تعفيهم من الرسوم للدولة «خورجيا»، ومن جميع الموجبات لها .
ولزمن هذه العلاقة تعود القبور والأنصاب التي تحمل كتابة فينيقية في البلاد الأتيكية، فنقرأ على أحدها أنه «نص للذكر بين الأحباء لعبد تانيت بن عبد شمس الصيدوني». ونقرأ على الآخر أن رجلاً من عسقلان أقام النصب لذكرى رجل من صيدون .
وقد لاحظ «إيزلن» من بين ستة قبور تحمل أنصابها كتابات فينيقية وجدت في أثينا و«بيراوس» كانت ثلاثة منها لأشخاص من صيدون.
وقد دخل ثراء صيدون مجال التندر بين الأدباء. وغدا ملكها «ستراتو» شخصية شبه أسطورية، كتب عنه ساخرًا أحد الكتاب الرومان بعد زمنه ببضعة قرون فقال: «إن مغنية واحدة لا تكفي للترفيه بنغمها عن «ستراتو» على مائدة الطعام. لذلك تحضر مجموعة من المغنيات الإناث ولاعبات المزمار والمحظيات من أجمل القدود مع الراقصات. وهو يبذل جهده ليتفوق على «نيكوكلس» (ملك سلاميس). كما أن هذا يعمل للتفوق عليه. ولكن هذين ينافس أحدهما الآخر، ليس في موضوع ذي أهمية، وإنما في هذا الأمر الذي ذكرته.»
هذا ما نقله «إيزلن» عن كتابة لإيليانس، معلم الخطابة في روما، في أواسط القرن الثاني للميلاد. بينما عبد عشترت، أي «ستراتو»، كما يسميه الإغريق، عاش في القرن الرابع قبل الميلاد. وهذا يعني لنا أن شهرة رفاه صيدون بقيت طوال ستة قرون مضرب مثل لدى الإغريق والرومان.
ولكن هذا الرفاه لم يدم طويلاً في ظل التسلط الفارسي في المنطقة. فنحن نقرأ لدى ديودورس الصقلي أن فينيقيا كانت مع الثائرين على حكم «أرتحشستا الثاني» (405-358ق.م.). وذلك في ما أطلق عليه «ثورة المرازبة». وقد كانت هذه الثورة بتشجيع من مصر التي كانت تعد السفن والجيش وتجنّد المرتزقة من الإغريق لمحاربة الفرس (90:15).
وفي هذه الثورة يبرز دور «ستراتو» في قصة مأساوية تنهي حياته كشخصية شبه أسطورية، وذلك خلال الثورة سنة 362ق.م. والقصة وصلنا تسجيلها بعد زمنه بعدة قرون. فقد كتب «جيروم» عنه يقول أنه عندما عرف بفشل الثورة وبأنه سيقع بيد الفرس ويخضع لتعذيبهم، قرَّر إنهاء حياته بالانتحار. ولكنه، في اللحظة الحاسمة، أخذ يتردَّد. وعندئذ أدركت زوجته ضيق الوقت أمامه، فلم يكن منها إلاَّ أن انتزعت السكين من يده وطعنته في جنبه .

نهاية صيدون الثانية
لم تتوقف ثورة صيدون مع موت ستراتو صديق الإغريق سنة 358 ق.م.، إذ ما أن توفى ارتحشستا الثاني حتى تولى السلطة بعده ابنه «ارتحشستا الثالث» المعروف باسمه «أوخس». وكان الهم الأول لهذا، هو إعادة تسلط الفرس على مصر. ومن ضمنه استعادة ولاء مدن الساحل اللبناني التي كانت تعني الكثير لتجارة الفرس وعلاقاتهم بحوض البحر المتوسط.
والقصة كما يرويها ديودورس الصقلي هي أن الفينيقيين عقدوا اجتماعًا قوميًا عامًا لهم في مدينة «طرابلس» المشتركة بينهم. وتداولوا في شأن تصرفات مرازبة الفرس وقادة جيوشهم المقيمين في مدينة صيدون. وكان هؤلاء يعاملون الأهلين بأسلوب التعالي المهين. فقرّر الفينيقيون معًا الثورة على الفرس والعمل للحصول على استقلال بلادهم. وارسلوا رسلاً إلى الملك المصري «نكتانيبوس» المعادي للفرس، فقبل بهم حلفاء له، وراحوا يعدون العدة للحرب.
وبما أن صيدون كانت متميزة بالثراء، وكان مواطنوها جمعوا ثراءً عظيمًا من عمليات التجارة والشحن في البحر، استطاعوا بسرعة جمع عدد كبير من السفن الحربية الثلاثية. كما جندوا الكثيرين من المرتزقة، بالإضافة إلى الأسلحة والقذائف المحرقة والطعام. وجميع المواد الأخرى اللازمة للحرب تم إعدادها. وكان العمل العدائي الأول الذي قاموا به هو قطع أشجار المتنزَّه الفارسي وتدميره. وقد كان الملوك الفرس يلجأون إليه للاستجمام.
أما العمل الثاني فكان قيامهم بحرق مؤونة الخيول التي كان المرازبة قد جمعوها في صيدون لأوقات الحرب.
ثم قبضوا على الفرس الذين كانوا ارتكبوا سفاهات ضدهم وانتقموا منهم (41:16).
* * *
هكذا كان بدء الحرب في صيدون ضد «ارتحشستا الثالث» (358-337ق.م.). وقد علم هذا بالأعمال العدائية، فأصدر تحذيرات لجميع الفينيقيين، وبوجه خاص للصيدونيين.
«جمع الملك قواته من المشاة والفرسان في بابل. استلم قيادتهم واتجه مباشرة لمحاربة الفينيقيين. وبينما كان لا يزال في الطريق، قام «بليزيس» مرزبان سوريا و«مزاوس» حاكم كيليكيا بجمع قواتهما والاشتباك بحرب ضد الفينيقيين. وكان «تنيس» ملك صيدون قد حصل من المصريين على أربعة آلاف جندي من المرتزقة الإغريق بقيادة القائد «منتور» الرودسي. وبمساعدة هؤلاء وبالمجندين من المواطنين اشتبك مع الاثنين وهزم جيشيهما وطردهما من فينيقيا.
«وخلال هذه الأحداث اندلعت حرب في قبرص أيضًا. وقد تداخلت عملياتها مع الحرب في صيدون، لأن في هذه الجزيرة توجد تسعة مدن عامرة بالسكان تتبع كل واحدة منها بلدات صغرى تكون كضاحية لها. ولكل مدينة من تلك المدن ملك يحكمها، ويتبع ملك الفرس. واتفق جميع ملوكها على الثورة، تقليدًا للفينيقيين. وبعد أن استعدوا للحرب أعلنوا استقلال مملكاتهم...
«وبعد أن انطلق ملك الفرس بمسيرته مع جيشه، من بابل إلى فينيقيا، علم تنيس حاكم صيدون بالحجم الضخم للجيش الفارسي. وقدَّر أن المتمردين غير مهيئين لمحاربته. فقرر العمل لأجل سلامته الشخصية. ووفق ذلك، وبدون معرفة شعب صيدون، أرسل «ثيتاليون» أشد المخلصين له من أتباعه إلى أرتحشستا، كي يعده بأنه سيخون صيدون من اجله، وانه سيساعده في التغلب على مصر، فيقدم له خدمة جليلة، لأنه يعرف مسالك مصر ويعرف بدقَّة مراسي السفن على شواطئ النيل. وعندما سمع الملك من ثيتاليون هذه الأمور الخاصة، سرَّ جدًا، وقال بأنه سيعفي تنيس من المسؤولية المتعلقة بالثورة، ووعد بأنه سيعطيه مكافأة كبرى إذا هو أنجز كل ما تعهد به وتم الاتفاق عليه.
«ولكن عندما أضاف ثيتاليون بأن تنيس يريد منه أن يؤكد وعوده بإعطائه يده اليمنى، انفجر الملك غيظًا للفكرة، لأن ذلك اتهام له بعدم الوفاء، وسلم ثيتاليون لمرافقيه آمرًا إياهم بقطع راسه. ولكن، بينما كان ثيتاليون في طريقه إلى عقابه، قال ببساطة: «إنك أيها الملك تعمل ما يرضيك، ولكن تنيس، برغم أنه مؤهل لانجاز النجاح الكامل، ولأنك ترفض العرض، هو بالتأكيد لن ينجز أي شيء من وعوده.» وعندما سمع الملك ما قاله غيَّر رأيه، ونادى أتباعه ثانية، طالبًا منهم تخلية ثيتاليون، وعندئذ أعطاه يده اليمنى لكونها ضمانة للعهود لدى الفرس. ووفق ذلك عاد ثيتاليون إلى صيدون وروى ما حدث معه لتنيس بدون إعلام شعب صيدون.
«اعتبر الملك الفارسي ذلك الأمر عظيم الأهمية، بسبب هزيمته السابقة في مصر. وهو أرسل مبعوثين إلى كبريات مدن الإغريق يطلب منهم الانضمام إلى الفرس ضد المصريين. وقد اجابه الأثينيون واللاسيديمونيون (الأسبرطيون)، بأنهم حريصون على صداقتهم للفرس، لكنهم يعارضون إرسال جيوش كحلفاء...
«... وقدم الإغريق المقيمون على شواطئ آسيا الصغرى ستة آلاف رجل، فبلغ مجموع الإغريق الذين اشتركوا كحلفاء عشرة آلاف. وقبل وصولهم، وبعد أن اجتاز الملك الفارسي سوريا ووصل إلى فينيقيا، خيّم غير بعيد عن صيدون. أما بخصوص الصيدونيين، ومع أن حركة الملك كانت بطيئة واظبوا على إعداد الطعام والسلاح والقذائف. كما أنهم أحاطوا مدينتهم بثلاثة خنادق ضخمة، وببناء أسوار عالية. وكان لديهم عدد كبير من الجنود المواطنين المدربين جيدًا على الأعمال الشاقة، مع شروط قوة جسدية ممتازة. وكانت المدينة تتجاوز المدن الفينيقية الأخرى بثرائها ومواردها الأخرى، وهي أهمها جميعًا ولديها أكثر من مئة سفينة ثلاثية وخماسية.
«كان تنيس ائتمن «منتور» على خطة الخيانة، وهذا هو قائد المرتزقة الذين جاءوا من مصر. وقد جعله يحرس جزءًا من المدينة ويعمل بالتنسيق مع عملائه لتنفيذ الخيانة، بينما هو ذاته يسير مع خمسمائة رجل إلى خارج المدينة بإدعاء أنه ذاهب لعقد اجتماع عام للفينيقيين، وهو يصطحب معه أبرز وجوه المواطنين، بالإضافة إلى مئة رجل بدور المستشارين. وما أن وصلوا إلى قرب الملك حتى قام بالقبض على المئة فجأة، وسلمهم إلى أرتحشستا الثالث. رحب به الملك كصديق وأطلق السهام على المئة باعتبارهم محرضين على الثورة. ولما اقترب الوجوه الصيدونيون الخمسمائة وهم يحملون أغصان الزيتون علامة التوسل، اتجه إلى تنيس وسأله، إذا كان مستعدًا لتسليم المدينة له، فهو كان يحرص على أن لا يتسلم صيدون بشروط الاستسلام، لأن هدفه كان يقضي بنكبة الصيدونيين بخراب دون رحمة، كي يثير الرعب في المدن الأخرى بمعاقبتهم.
«وعندما أكد له تنيس بأنه سيسلم المدينة، بقي الملك على غضبه الذي لا يرحم وقتل الوجوه الخمسمائة، وهم يحملون الأغصان متضرعين. وعندئذ اقترب تنيس من المرتزقة المرسلين من مصر، وطلب منهم العمل لإدخاله هو والملك إلى داخل الأسوار. وهكذا بهذه الخيانة الأساسية سقطت صيدون بيد قوات الفرس، وحيث اعتبر الملك ان تنيس لم يعد ذا فائدة له قضى عليه بالقتل.
«لكن شعب صيدون وقبل وصول الملك أحرقوا جميع سفنهم، بحيث لم يعد أي إنسان من المدينة يستطيع الإبحار سرًا، ناجيًا بنفسه. وعندما رأوا المدينة والأسوار ساقطة ينتشر فوقها ألوف الجنود، أقفلوا منازلهم على أنفسهم وأبنائهم ونسائهم وأشعلوا فيها النار. ويقولون بأن أولئك الذين قضوا بالحريق مع خدمهم بلغ عددهم أكثر من أربعين ألفًا. وبعد هذه الكارثة التي مني بها الصيدونيون ومدينتهم معهم بسكانها، حيث كانوا طعمة للنار، قام الملك ببيع تلك المحرقة الجنائزية بعدة وزنات، لأن إزدهار بيوت المدينة غدا كمية كبيرة من الفضة والذهب، مصهورة بالنار. وهكذا فإن الخراب الذي حصل لصيدون، مع هذه النهاية، حمل المدن الأخرى إلى التسليم للفرس بسبب صدمة الذعر هذه.»
والسؤال الذي يطرحه التاريخ عن هذه الحادثة الفذة هو: هل كان تنيس خائنًا…؟
أخطأ المؤرخ ديودرس الصقلي عندما حكم على تنيس الصيدوني بالخيانة، دون تحليل أو تعليل. وقد كان عليه أن يدرس موقف الملك الصيدوني ومحاولته لإنقاذ مدينته وليس نفسه فقط، كما اعتقد. كان عليه أن يحذو حذو هيرودت عندما أدان أحشويرش لقتله الرئيس البحري الذي أوصله للبر سالمًا واستحق المكافأة لا القتل بتهمة التسبب بموت نبلاء من الفرس (120:8).
لقد ورث تنيس الثورة من أسلافه، ولم يكن يستطيع الخروج منها. ولنذكر هنا أن تنيس لم يتخذ قرار الثورة وحده أو صيدون وحدها، بل كان قرارًا قوميًا عامًا، اتخذته المدن، الدويلات التابعة للفرس بمساندة دولة كبرى هي مصر ةتعاطف مع بلاد الإغريق. وفي هذه الحالة كان على تنيس أن يحاول الخروج من هذا المأزق بأقل خسائر ممكنة.
وعندما نعرف عمق العلاقة التي كانت بين الفينيقيين وبلاد الإغريق، في تلك الفترة، نعرف أن الفكر الإغريقي في الحرية، كما برز مع أرسطو وأفلاطون، كان له ما يضارعه، وربما يتفوق عليه، في صيدون وصور وغيرهما من مدن فينيقيا. وهكذا نجد أن الحرب التي أدت إلى انتحار الصيدونيين كانت حرب عقائد ومبادئ في الحرية، تصل إلى حد التدين، أي أنها حرب بين مفهومين لمعنى الإنسان: المفهوم الديمقراطي في الحقوق والواجبات والحرية يقابله المفهوم التسلطي الفارسي الذي كان يمارسه الإمبراطور «أوخس» ومرازبته المطلقو السلطة على الشعوب.
وهنا علينا أن نتذكر أن الزمن الذي نشأت فيه الثورة على الفرس كان زمن الإزدهار والتوسع لدى الفينيقيين. كما هو زمن تنظيم دولهم، هذا التنظيم الذي كتب عنه أرسطو بأعجاب عندما عرفه في قرطاجه. وذلك خلال كتابه «السياسيات»؛ حيث رأى أن عدم حدوث أية ثورة على دستور القرطاجيين وعدم وجود طاغية بينهم سببه وجود حكم ديمقراطي يشرك الشعب في السياسة العامة .
يبدو أن صيدون كانت تتمتع بحكم برلماني مماثل لحكم قرطاجه. وكان عدد ممثلي الشعب مئة شخص. وربما كان بعدد ممثلي قرطاجه المئة والأربعة حسب أرسطو. فالمؤرخ ديودرس كتب تاريخه بعد ثلاثمائة عام من الواقعة. هؤلاء المئة سلمهم تنيس للملك الفارسي فداءً عن المدينة وفق بنية ذهنية الفداء التي كانت في حضارة الفينيقيين، والتي كانت تحملهم على تقديم أبنائهم أضحيات للآلهة لإنقاذ مدنهم، كما فعلت قرطاجة مرة عندما حاصرها «أغاتوكل»، حيث ضحت بمئتين من أبناء نبلائها، كما يخبرنا بذلك ديودورس الصقلي (14:20).
فلنا أن نفترض هنا أن تنيس، كمسؤول ورجل دولة خطّط لتقديم المئة من السياسيين كأضحية عن المدينة كي يهدئ من غضبه أوخس الدموية، بينما اصطحب معه خمسمائة من وجهاء الشعب مع أغصان الزيتون، توسلاً للسلام الذي غدر به «أوخس» وأخل بوعوده نحوه، بعد أن أكد وعده به لمبعوث تنيس «ثيتاليون». ولو كان تنيس خائنًا لما كان اصطحب معه خمسمائة من مواطنيه البارزين مع أغصان الزيتون، بل لما كان استطاع أن يصطحبهم، لو لم يكن قد وثق بوعد أوخس وأمل بإنقاذ المدينة بعد تقديم المتهمين بالثورة لمصيرهم المحتوم.
فهو كان منطقيًا واقعيًا عندما وعد الفرس بمعاونتهم في احتلال مصر. فقد كانت هناك سابقة لصيدون في هذا المضمار في عهد قمبيز الفارسي، حيث ساعدت الجيش الفارسي ونالت مكافأة لذلك مدينتي يافا ودور، كما يذكر النص أشمونعزر ابن تبنت ملك صيدون.
إنه، بلا شك، تذكر خدمات الصيدونيين للفرسن وشاء التلويح بها. وكان يمكن لهذا العرض أن ينجح مع أي سياسي، غير أوخس، الحاكم الدموي، فهذا لم يراع حرمة أو يحفظ عهدًا في حياته. عندما مات والده قام بإخفاء خبر موته طوال عشرة أشهر داوم خلالها على إصدار المراسيم بختم والده. وبين هذه المراسيم كان مرسوم تسميته وليًا للعهد . كما مع اعتلائه للعرش قتل جميع أخوته وأخواته، وهم كانوا بالعشرات .
وهكذا لم يكن نكثه لوعده عملية نادرة، بل إننا نفترض أن تنيس كان يعرف هذا السلوك منه، ولذا طلب منه عقد العهد لمبعوثه «ثيتاليون»، بإعطائه يده اليمنى، أي للالتزام بوعده، وفق تقاليد الفرس، أمام جميع حاشيته والمسؤولين الحاضرين في ديوانه.
ولعل الحلقة الضعيفة التي كانت في خطة تنيس هي ائتمانه قائد المرتزقة «منتور» الرودسي. فيبدو أن خيانة هذا القائد الآتي من مصر هي التي أدت إلى استغناء أوخس عن تنيس والصيدونيين. أطلعه تنيس على سره وأشركه معه. ولم يكن ليفعل ذلك لو أن منتور كان مخلصًا لمصر التي أرسلته. والفرس كانوا ألدّ أعدائها آنذاك. كما لم يكن ليفعل لو أنه حقًا كان يريد تخليص نفسه فقط، دون مدينته؛ لأنه في هذه الحالة لا يبقى بحاجة للمرتزقة ومسؤولية رواتبهم.
لقد آمن تنيس، كما يبدو، بالعلاقة العميقة بين صيدون والإغريق، فكشف لهم عن مخططه إيمانًأ منه بصوابية هذا المخطط، وبضرورة تأييده من قبل أي فريق عقلاني محايد، وبخاصة إذا كان هذا الفريق يتقاضى راتبه من المدينة التي يعمل لإنقاذها، كما هو وضع منتور ومن معه من المرتزقة. ولكن هذا غدر وخان مسؤوليته، فاتصل بالفرس، منافسًا تنيس في تقديم العروض لهم لمساعدتهم في احتلال مصر التي كانوا قد فشلوا في حملة سابقة ضدها (44:16).
لقد كان منتور الجسر الذي عبر عليه الجيش الفارسي، ليس إلى صيدون وحدها سنة 351ق.م.، بل إلى احتلال مصر أيضًا سنة 344ق.م. فهو سرعان ما نجده قائدًا هامًا لدى الفرس، وحاكمًا رئيسًا لمناطق الساحل الآسيوي. كانت مهمته الأساسية تجنيد المرتزقة من الإغريق للجيش الفارسي. وقد منحه أوخس مرة مئة وزنة من الفضة مكافأة له. كما عينه قائدًا في القيادة العليا. وهو كرَّر عمليات خداعه ونكثه للعهود، فسلم «هرمياس» حاكم «أطرناوس» للفرس، بعد أن طمأنه إلى العفو عنه. كما استعمل أختامه لأمر أتباعه بتسليم مدنهم للفرس، كما يخبرنا بذلك ديودورس (47:16-52).
وكانت خيانة منتور سببًا في فقدان الثقة بين المصريين والمرتزقة الإغريق في جيشهم. ولعله كان الوسيط لخيانة بعض هؤلاء، عند وصول الجيش الفارسي إلى مصر. وقد دخل أوخس إلى مصر، كما دخل إلى صيدون، معتمدًا على خدمات منتور وأمثاله. وفي مصر انتهك حرمة المعابد فيها، بعد فرار ملكها إلى أثيوبيا، وكان اسمه حسب ديودورس «نكتانيبوس» (نختينيحب). وكان لديه عشرون ألفًا من مرتزقة الإغريق، ومثل هذا العدد من الليبيين (الأفارقة)، بالإضافة إلى ستين ألفًا من المصريين المحاربين (47:16).
وإن الباحث يفاجأ بسكوت المؤرخ ديودورس الصقلي عن سلوك منتور الرودسي اللاأخلاقي المذكور، بينما يسرع باتهام تنيس الصيدوني بالخيانة، ولا يورد شرحًا لسبب قيام «أوخس» بإعدامه، بعد استلامه صيدون منه.
والتفسير الأقرب إلى العقل والمنطق في مجرى الحوادث هو أن تنيس كان مخلصًا ويحاول إنقاذ مدينته، وليس نفسه فقط، من براثن «أوخس» الدموي، وقد دفع حياته ثمنًا لهذا الإخلاص. بينما كان المرتزق منتور مغامرًا انتهازيًا، غدر بتنيس وصيدون وقدمهما ثمنًا مقنعًا للمركز الذي تولاه لدى الفرس بعد ذلك.
أما عملية انتحار الصيدونيين بحرق أنفسهم، فلم يرد لها ذكر عند غير هذا المؤرخ. وقد ورد ذكر صيدون كمدينة عامرة بعد عشرين سنة فقط، خلال حملة الإسكندر المقدوني، وأنقذ بحارتها الكثيرين من أبناء صور عندما تغلب الإسكندر على مدينتهم. وهذا يدعونا للشك برواية ديودورس والمصادر التي استقى منها معلوماته. وهي حدثت قبل زمنه بأكثر من «250» عامًا.



بين الحقيقة والتاريخ

بين الحقيقة والتاريخ
بقلم الباحث في التاريخ الحضاري
د. يوسف الحوراني

موضوع كبير كبير، يطرحه للبحث أحد العامليين الأوفياء. خلتني أسمعه سؤالاً يتردّد في بلاد [عاملة]، قبل أربعة آلاف عام، وهو: ما هي حقيقة التاريخ وحق الإنسان فيه؟ وكان ما كان الجواب على السؤال، وهو الانتشار حتى وادي النيل آنذاك لضبط وفرها وقحطها، وامتداد البدو أبناء قومهم حتى وادي الرافدين، لتشريع حقوق إنسانها وتقديم أنبل ما حصل للتاريخ الحضاري العالمي، وهو [التشريع]، ولكل الناس. كذا كانت عظمة السؤال وتنامي الجواب في أزمنة قلقة كالتي نحن فيها…
* * *
الحقيقة: هي مفهوم ذهني. مقياسه الأثبت هو الإنسان ذاته، مع كل اختلاف ثقافته وميوله وقدراته العقلية. والحجة التي تساند ذلك، هي أنه لا يوجد مقياس واحد مطلق للحق أو للحقيقة. وقد جمعتهما وصية تاريخية مع المتسائل والآخرين معه، وهي: [ما ترضون أن يفعله الناس لكم، افعلوه أنتم لهم…]. وهكذا، في مجال السلوك، يكون الحق والحقيقة والإنسان في تلازم كامل معًا، يغني عن أية فلسفة أو اجتهاد فقهي.
أما تفاصيل مقياسها المركب في المجال العملي والعلمي فقد احتهد في عرضه المفكر الفلسفي [هنتر ميد]، فارتأى:
1- التحقق الحسي والمطابقة مع الواقع.
2- الترابط مع معارفنا السابقة.
3- ظهور النتائج المتوقعة ذاتها.
4- الاتفاق الاجتماعي الممكن حول الشروط المذكورة هذه.
5- موافقة السلطات ذات العلاقة، سواء علمية أم اجتماعية.
6- اليقين والارتياح الباطني بأن ما لدينا هو الأفضل، وليس المطلق (مذاهب ومشاكل الفلسفة).
وهنا أعود للقول أنها [مفهوم ذهني خفي]. فإن ملاحقتنا لها بمفردات مثل [حقق ويتحقق وسيتحقق]، تجعلها خفية دائمًا وتنتظر الحكم عليها، ممن يبحث عنها. والنهج اللغوي ذاته يتداوله الناس في اللغات التي نتعامل بها وفق معرفتنا.
وكي لا نبقى في التجريد، وهو ممل، أعرض لوحتين مختلفتين عن اختلاف مدلول الحقيقة في مجرى الفعل التاريخي الحضاري، وهما: [نحن والآخرون]. وقد اختص بهذا المفهوم الساميون القدماء، و[نحن من دون الآخرين]. وقد لازم هذا المفهوم الإغريق والرومان، وما سار على خطاهم ولا يزال طوال العصور التي توالت.
* * *
أحرج المكدونيون الإسكندر، عندما سألوه عن حقيقة غاية حروبه، بعد أن ثأر من الفرس وسلب ثرواتهم الضخمة وأحرق قصورهم لإرضاء [تاييس]، واجتاز إلى بلاد الهند الوادعة، بينما هم غدوا مرضى من الشوق إلى عائلاتهم وبلادهم، وقد تعبوا من مجاراة طموحه الذي لا غاية له سوى الحرب والقتل والمغامرة في تدمير كل عصي في بلاد الآخرين مع سفك دماء رجالهم وإذلال كل من يخضع له منهم من أجل سلامه. وذلك كله تحت شعار [توحيد العالم وتحرير بني الناس من الاستبداد والمتجبرين…
جمع قادة جيشه وواجههم بحقيقة يعمل لأجلها، خلال خطاب نقله المؤرخ الإغريقي [أريان] وكان منه:
[إن الرجل الذي هو رجل، حسب اعتقادي، حين يتجه إلى أهداف نبيلة لا تكون له غاية سوى نبل هذه الأهداف ذاتها. وإذا شاء أي منكم أن يستعلم عن حدود معيَّنة لهذه الحملة العسكرية الخاصة، فأقول لكم: إن مسافة الأرض التي لا تزال أمامنا، من هنا وحتى نهر [الغانج] هي مسافة صغيرة نسبيًّا… وستكون لنا كل [ليبيا] (أفريقيا) وإلى الشرق أيضًا، مع كل [آسيا] لهذه الأمبراطورية التي لا حدود لها إلاَّ التي وضعها الإله ذاته للعالم بكامله.] (25:5)
هذا ما افترضه الإسكندر المحارب لتعريف الحقيقة التي يرغب في إظهارها على الأرض. وهو قتلَ ودمّر وأذلّ شعوبًا كثيرة، فنقل بأعماله قيادة الإنسانية من الشرق إلى الغرب، وغدا مع الزمن كفاصل تاريخ. وهو تابع مسيرته، ولم يستطع إقناع سامعيه، فتعددت المؤامرات على حياته إلى أن نجحت إحداها أخيرًا ومات بالسم في بابل. وكان أنبل عذر قدمه الإغريق للعالم هو اتهام [أرسطو] الفيلسوف بأنه هو من أقتنع وأعد له السم القاتل (بلوتارك 77:7). وحقق الفكر الحضاري عدالة حقيقية.
كانت غاية إغريقه المرافقين له الانتقام من الفرس الذين كانوا أذلّوا أسلافهم وجعلوا مجموع بلادهم ولاية من أصل عشرين ولاية فارسية، كانت تدفع صاغرة ضريبة هي عشرون وزنة من الفضة كل سنة اعترافًا بخضوعهم (هيرودت 92:3). وقد حققوا هذا الموضوع وانتقموا، واعتبروا ذلك حقيقة وصلوا لها حين إذلالهم من كانوا أذلّوهم وانتهكوا حرمة حرياتهم.
أما هو فكانت في ذهنه حقيقة أخرى يعمل معتقدًا بها، وهي أنه من سلالة [هرقل] المؤلّه. وقد ردم بحر مدينة [صور] الفينيقية وقتل وأسر وباع أهلها للعبودية من أجل الوصول إلى معبد [هرقل] في المدينة، ولأنهم شاؤوا البقاء على الحياد من أجل أمنهم. (اريان 24:2)
وحقيقة الاستمرار في حروبه العبثية، وإفناء الناس وتدمير مدنهم وحصونهم، والإصرار على بلوغ أصعب ما يعسر على الآخرين بلوغه، هي عقيدته بالخلود والتّأليه خلال أعمال بطوليّة يتفوق بها على ما ينسبه القصاصون لجده المزعوم. ومن هذا التحدي الخيالي للجد كان ذهابه في الأرض إلى أبعد ما يمكنه الوصول إليه. وبلغت حقيقة قناعته بأنه إله ومن سلالة آلهة أنه فرض على الاخرين السجود له حين الاقتراب منه. (أريان 20:4)
غدر بكتيبة من أفضل محاربي الهند، بعد أن هادنهم وسمح لهم بالمغادرة من إحدى المدن، وأفنى جنودها. كما أمر بشنق مجموعة من الفلاسفة كانت تنصح الهنود بعدم الانضمام إليه، وتدعو إلى الثورة على احتلاله للبلاد (بلوتارك 59). وهو أمر بذبح أسرى الفرس لديه لإرهاب من كانوا يقاومونه بضراوة دفاعًا عن بلادهم (بلوتارك 37). كما وحدادًا على صديقه الشاب هيفايستيون أمر بقتل ذكور إحدى القبائل، وجز ذيول وأعراف جميع الخيول، وصلب الطبيب، وتدمير تحصينات المدن المجاورة. (بلوتارك 72)
كان مؤمنًا بدين يستلهم سلوكه منه وهو [دين الحرب] وسفك الدماء. وكان كتابه المقدس نسخة من إلياذة [هوميرس] يحملها معه في علبة جواهر ثمينة، كان غنمها من آثاث الملك [داريوس] الفارسي (بلوتارك 26). فهل تكون عقيدته هذه غير [الحقيقة] ما دام يؤمن بها ويغامر مع الموت لأجلها؟
لقد أبقت حقيقته الآخرين آخرين، مكلفين بفعل الموت، من أجل وصوله لها. وحتى المكدونيين الذين ورث قيادتهم عن والده، كان يذكرّهم بأن كرامتهم هي من صنع والده هو. (أريان 8:7)
ولن أهمل موقفًا يعفي الإسكندر من أية علاقة إنسانية في حروبه، وهو: حين أمر بإفناء كتيبة هندية من الشجعان أنضمت إلى جيشه، ولكنها أمتنعت عن قتل أبناء قومها. (اريان 27:4)
تلك كانت حقيقة الإسكندر الذي رفض قومه الاعتراف بألوهته، بينما بقي الاعتراف بالعربية تحت صفة [ذي القرنين] التي نرفقها باسمه، استمرارًَا لتراث سومري-أكادي، كان يعتبر القرون في الصور والتماثيل رمزًا للألوهة، وتمييزًا عن الناس.
حقيقة أخرى [نحن والآخرون]: كانت هناك حقيقة حضارية أخرى يتبناها آخرون، وهي غير حقيقة الإسكندر الدموية الرافضة لكل الآخرين. وهي حقيقة وجود الآخرين ومراعاة حقوقهم في الفعل والتشريع لصيانة هذه الحقوق. إنها حقيقة ذهنية الساميين الذين قدموا التشريع للإنسانية وبشروا بالسلام على لسان مقدساتهم. فقد أوصى بعل أوغاريت الإلاهة عناة بعد جلوسه على العرش: [أقيمي وئامًا في الأرض… أبذري في التراب محبَّة… اسكبي سلامًا في كبد الأرض… أكثري من الحبّ في قلب الحقول.] (ملاحم أوغاريت)
كانت هذه حقيقة الشريحة القرطاجية التي تحققت للمؤرخين. وهي أن [قرطاجه] السامية الفينيقية بنت امبراطورية شاسعة، دون إراقة أي دم لإنسان. وهذه الحقيقة قال عنها [أرسطو] معاصر الإسكندر، حين وصف قوانينها: [إن انتظام دستور القرطاجيين، مع إشراك الشعب في السياسة وإنعدام ظهور ثورات وطغاة، هي حقيقة تاريخية جديرة بالتقدير.] (السياسيات 1272:8ب)
* * *
تابعت روما تحقيق إلغاء الآخرين، كل الآخرين. وانتهزت فرصة إنشغال جيش قرطاجه في عمليات تحضير وتنظيم للبدائيين في أفريقيا واستولت على محمياته في أسبانيا وصقليه وسردينيا وما حولها. وكان الرد وصية هملقار الوالد لابنه هنيبعل أن يستعيد ما اغتصبه الرومان ويحد من تمادي الاغتصاب. وقد أقسم على ذلك في المعبد وهو ابن تسعة أعوام. (ليفي 1:21)
اجترح معجزة باجتيازه جبال الألب. ويبدو أن مغامرته القاسية هذه كانت لتدريب جيشه على التحمل واجتياز المصاعب القاسية، لأن [الألب]، حسب قوله، ليست سوى جبال عالية. ومع أنها أعلى من جبال [البيرينيه]، ولكنها لا تبلغ السماء. ولا يوجد مرتفع على الأرض غير قابل لاجتياز الإنسان… وقد تحرك الجيش في اليوم الثاني، واتبع هنيبعل طريقًا على طول وادي [الرون] باتجاه بلاد [الغول]. (ليفي 30:21)
قام بمسيرته بعد الإسكندر بأكثر من مئة عام سنة 218 ق.م.، وشاء المؤرخون الإغريق والرومان أن يكتبوا عنه وفق مفهوم حقيقة الإسكندر الدموية القائلة بإلغاء الآخرين وإخضاع العالمين بالبطولة والقهر والإذلال . ولكن الحقيقة لم تكن كذلك لهنيبعل وحملته الجبارة. فعالم حقيقة حربه يتسع لكل الآخرين. وهو كان يحارب لإلغاء الحروب وأعمال القهر.
هذه السياسة كانت وصلت إليه مع قيادة الجيش التي تسلمها بعد مقتل قائده زوج شقيقته، وعضو الحزب الذي ينتمي إليه ويتوجه بمبادئه؛ وكان هذا يدعى [هسدروبعل]. تسلم القيادة طوال ثماني سنوات من هملقار والد هنيبعل ووالد زوجته هو. وهو نال مساندة قوية من حزب [برقى] القرطاجي، الذي كان واسع النفوذ في الجيش وبين الأهلين، مع أن قياديي سياسة دولة قرطاجه كانوا يعارضونه ويحاربون سياسته التي كانت مبادئ لحزب [برقى]. (ليفي 2:21)
يصف المؤرخ ليفي سياسة الجيش القرطاجي هذه بقوله: [كانت سياسته ترمي إلى التوسع السلمي وليس التوسع بالقهر، مع تجنب الإستعمال المباشر للقوة لتوسيع سلطة القرطاجيين. وذلك كان يتم بإقامة علاقات صداقة مع الأمراء المحليين، لكسب دعمهم ضمن كل المجموعات المواليه لهم.
[بهذه السلوكيات المتميزة لديه كان يبسط نفوذه على المجموعات الأسبانية. وقد استطاع كسبها إلى تأييد قرطاجه.] (ليفي 3:21)
وعندما استلم هنيبعل الفتى القيادة، بعد اغتيال [هسدروبعل]، كانت كلمته الأبلغ لجنوده قوله: [إنه كان تلميذًا لهم قبل أن يصبح قائدًا. وسبب حربهم للرومان هو لأن الرومان شعب متكبر عديم الرحمة، وهم يريدون إخضاع العالم لإرادتهم، وان يكون لهم الحق بتحديد من علينا أن نصادق أو نعادي. وليس هناك حافز يوصل للنصر أقوى من إزدراء الموت.] (44:21)
اجتاز جبال الألب الصعبة مع النيّة بأن يتابع سياسة سلفه، ويكسب تأييد الشعوب التي يلتقي بها، ليبعدها عن روما، قبل الوصول إلى موقع الحرب والفصل بإراقة الدماء.
* * *
كان جيشه مكونًا من قوميات ولغات وألوان مختلفة. لا جامع بينها سوى الطاعة والمحبّة له. (بوليب 4:11، 19)
كتب عنه المؤرخ المعاصر له بوليب، فقال: [والمدهش أنه، بموهبته السياسية، وطوال سبعة عشر عامًا من الحروب والمخاطرات، لم تحدث أية مؤامرة عليه، ولم يتركه أحد من جيشه.] (5:23، 13)
وعندما لجأ إليه فصيل من [الغاليين]، انشقوا عن الرومان، رحب بهم ووعدهم بالمساعدة وأرسلهم إلى عائلاتهم وقومهم. وكان عددهم ألفي محارب، بينهم مئتا فارس. (ليفي 48:21)
في معركة [كاناي] التي انتصر فيها سنة 216 ق.م.، سقط خمسون ألف قتيل في المعركة. وبعد انتصاره أطلق الأسرى من غير الرومان أحرارًا دون مقابل، وجمع الأسرى الرومان وخاطبهم بلطف، قائلاً: [إنه لا يحارب الرومان حرب إفناء وإنما هو يحارب من أجل الشرف والحفاظ على الإمبراطورية فقط. ويمكن لروما دفع فدية عنهم وتحريرهم.] (ليفي 58:22؛ وبوليب 4:3، 118)
بعد انتصاره، غدا تردده في اقتحام روما وتدميرها بجيشه لغز تاريخ، لم يكتشفه المؤرخون لإختلاف مفهومهم عن [الحقيقة] في الحرب عن مفهومه هو. ولكن، هو ذاته كشف هذا اللغز بعد أن دعي مع جيشه للدفاع عن قرطاجه. ويكتب ليفي واصفًا تلقيه هذه الدعوة: [القصة هي أنه همهم باستنكار وصر على أسنانه، وبالكاد حبس دموعه عند سماع ما قاله له المبعوثون. عندما وصلته الرسالة قال: إنهم طوال سنوات مضت يحاولون بالقوة فرض العودة علي برفضهم إمدادي بالدعم والمال؛ ولكن الآن لا يدعونني بطرائق غير مباشرة، وإنما بكلمات واضحة: هنيبعل تمت هزيمته، ليس على يد الرومان الذين هزمهم في الحرب مراتٍ عديدة في المعارك وجعلهم يفرّون، وإنما بالحسد والاستخفاف المستمر من مجلس شيوخ قرطاجه. بهذه العودة المكروهة والمخجلة لي لن يكون [سيبيو] هو المنتصر والفرح، وإنما هو [هانو] الذي وجد أن الطريقة الوحيدة لتدميري مع عائلتي هي في تدمير قرطاجه.] (ليفي 20:30). وكان هانو هذا عدو حزب [برقى] السياسي، وهو الذي كان يقاوم الحرب ضد روما، حرصًا منه على عدم تنامي شهرة هنيبعل مع نجاحاته المستمرة. ولعل في هذا الموقف المؤسف عظة لكل من يقرأ ويبحث عن عظة في التاريخ…
قبل المعركة مع القائد الروماني الفتى [سيبيو]، طلب الإجتماع به، بعد أن أعجبه سلوكه كقائد نبيل، عندما عفا عن جواسيس قرطاجيين قبض عليهم وأعادهم سالمين لأعدائه.
اجتمعا معًا، فلفته إلى أنه لا يزال فتى قليل التجربة مع الحظ. وعليه أن ينتبه إلى أن الطبيعة ذاتها وضعت حدودًا لموضوع النزاع بين الشعبين. والحدود هي أن تكون إيطاليا للإيطاليين، وأفريقيا للقرطاجيين؛ وأنه على استعداد للتخلي عن صقلية وسردينيا وأسبانيا والجزر الأخرى، للشعب الروماني، على أن ينتهي الصراع بين الشعبين.
وأخيرًا عند نهاية الإجتماع وعدم تجاوب الروماني معه، أعاد تذكيره بإنقلاب الحظوظ، وقال متألمًا، كاشفًا سر اللغز الذي أتعب المؤرخين: [إني هنيبعل ذاته الذي بعد معركة [كاناي] غدا سيدًا على كل إيطاليا تقريبًا. تقدم إلى قرب روما ذاتها على بعد أقل من أربعين غلوة (8 كلم) من عاصمتكم، وراح يفكر بما سيفعله بكم وبأرض وطنكم. وهو الآن يجد نفسه بعد عودته إلى أفريقيا يفاوض أحد الرومان حول السبل التي يضمن بها سلامته وسلامة القرطاجيين.] (بوليب 1:15، 7). وكان عيَّره [مهربعل] قائد فرسانه حين رفض اقتحام روما، بأنه يعرف كيف ينتصر لكنه لا يعرف الإستفادة من النصر. (ليفي 51:22)
كذا كانت حقيقة حربه وانتصاراته، يفكر بالآخرين، كما يفكر بمن يخصه ويواليه. ولكن جواب القائد الشاب كان يقوم على حقيقة أخرى هي الحرب لإلغاء الآخرين. كان الجواب: لا بد من التذكير بحجة [هانو] عدو هنيبعل التي كان بموجبها يقاوم موافقة مجلس الشيوخ على إمداده بالدعم أو بالمال. والحجة هي: [إن كلمة سلام لا يتنفس بها أحد في روما.] (ليفي 13:23)
هكذا انتصرت الحقيقة الرومانية الإغريقية في الحرب، وفشلت حقيقة هنيبعل وحزب [برقى] القرطاجي الحضاري. وعندما سئل سيبيو عن فرصة السلام من قبل ثلاثين عضوًا من مجلس شيوخ قرطاجه الذين حمَّلوا مسؤولية الحرب لهنيبعل وحزبه، مظهرين الخضوع والذل أمام الرومان، أجابهم سيبيو قائلاً: [إنه جاء إلى أفريقيا مع أمل بأن يعود إلى الوطن بالنصر وليس باتفاقية سلام. وقد تعاظمت آماله مع نجاح حملته.] وعندها فرض شروطه على القرطاجيين، وذلك حدث سنة 203 ق.م. (ليفي 16:30)
دامت حقيقة عداء الرومان وتحققت لهم عملية إلغاء الآخرين بقيام [سيبيو إميليانس] سنة 146 ق.م. بتدمير قرطاجه بالنار، بعد أن كانت توصف بأنها أغنى مدن العالم في زمنها. وقد امتنع عن شراء أي شيء أو اقتنائه من بقايا المدينة، برغم حاجته. بل، ويذكر المؤرخ بوليب الذي كان يرافقه أنه بكى وهو يرى المدينة تحترق (4:38، 22). وكانت هكذا دمعته وحدها كافية للانحياز إلى حقيقة حزب [برقى] وهنيبعل والسلم وحقيقة الحرب من أجل [نحن والآخرين] وليس [نحن] فقط، كما كانت معظم الحروب ولا تزال…
وإن من يقرأ عن إصلاحات هنيبعل الإقتصادية حين إدارته الدولة في قرطاجه، يدرك المدلول العملي للحقيقة التي كان يحارب لأجلها، بعد أن غدا رجل دولة لا قائد حرب. (ليفي 46:38)

Tuesday, August 3, 2010

أرض وموضوع وحوار وتاريخ

أرض وموضوع وحوار وتاريخ
د. يوسف الحوراني

أرض الحوار
أرض العربية اليوم، وقبل أن يكون لها اسم وحدود، هي منذ أناسها الأول أرض اللقاء والحوار والتغيير…
كانت مع بدء تاريخ الإنسان مهدًا للاستقرار والبناء والتشريع من أجل الأمن والسلام. في أرض العراق ووادي النيل وشواطئ بلاد كنعان وسهولها نشأت أولى المجتمعات الرعائية، ثم الزراعية فالمدنية، كما تفيدنا بذلك نبشيات علم الآثار.
في هذه الأرض وعى الإنسان بعض ذاته، فبدأ يحاور الطبيعة حوله حوار جدل وفهم، يعطيها باذلاً من جهده وحكمته ليأخذ منها ما يستطيع أخذه، حتى إذا ما نمت خبراته تكوَّن لديه عالم إنساني مستقل في اللغة والفكر والحلم بالغد. هذا الغد الذي غدا هاجسًا ليومياته ليس لجمع مؤنه واتِّقاء طوارئه وحسب، بل بالغد المفتوح الذي لا تحدّه نهايات أو موت.
آمن بالكلمة فعل خلق وتغيير، فخالها سحرًا يتجسد بها كل عمل وإرادة سيادة، أو إبداع مفيد. ومن الإيمان بالكلمة كان الحوار شرطًا لديه للاستمرار واجتياز العقبات.
كان مقدامًا في إبداعاته، فصوَّر أفكاره على ألواح الطين وورق البردي لإشراك الآخرين معه، فكانت له الكتابة الأولى التي غدت مقاطع كلمات تعاملت بها جميع الشعوب المجاورة دون حرج أو شعور اغتراب. وعندما اجتهد أكثر من أجل الآخرين صور الصوت ذاته ونشره في العالم ليكون ما هو للإنسانية اليوم «أبجدية» تتفاهم بها جميع شعوب الأرض، فتجمع من خلالها قدراتها لغزو الفضاء…
«كسر جناح الريح» وصنع شراعًا يسيِّر به زورقه في النهر والبحر ليتواصل مع الآخرين البعيدين. قيل خمسة وأربعين قرنًا أنشأ مدارس للثقافة باسم «إدبا» ليكون له تراث وليحفظ حقوق الناس ويعلم أجيال المستقبل خبرة أجيال الماضي وحكمتهم. ومن ظاهرة المدرسة والمكتبة نشأ أول حوار للتغيير، إن لم يكن بين الشعوب المختلفة فبين الأجيال القديمة والأجيال الجديدة. ولا نعجب إذا ما عرفنا أن ملاحم الأبطال وقصص حكماء الأرض وتشريعات المشرعين انتشرت لدى جميع الشعوب المجاورة. فهي كتبت لكل الناس ومن أجل القيم والأخلاق النبيلة، وليس لاستتباع الآخرين أو التسلط عليهم بذرائع التفوق أو امتلاك القوة وفرصة النجاح.
فهل ليس حوارًا ثقافيًا عبر الزمن أن نكون لا زلنا نتعامل بما حفظته لنا مكتبات شوروباك وأوروك ونيفر وإسن من مبادئ للرياضيات وتقسيمات للزمن ومبادئ للعدالة وتنظيمات اجتماعية متعددة؟ إنها من بلاد العراق القديم الغارق اليوم بالدماء لغياب ذهنية الحوار…
كانت قمة تجليات حضارة المعرفة القديمة في أرض العربية قيام «أشوربانيبال» بجمع المعارف الإنسانية في جرار مكتبة قصره في نينوى، وذلك حدث قبل نشوء الإسكندرية التي جمعت مكتبتها معارف الإغريق والمصريين القدماء، بأكثر من ثلاثمائة عام.
ولدينا حدث تاريخي يشهد لموقع الثقافة البابلية ودورها الحواري المعرفي في صنع السلام. هذا الحدث يمكن اعتباره رمزًا لارتباط المعرفة بالسلم وعلاقتهما معًا بدور أرض العربية ورسالتها في رعاية العلاقة بين الشرق والغرب. في سنة 585ق.م، كانت هناك حرب دامية بين الشرق والغرب، أي بين الفرس والإغريق آنذاك. وكان الفيلسوف «طاليس» الفينيقي الأصل، قد تنبأ للمحاربين بكسوف الشمس، معتمدًا على أرصاد الكلدانيين وسجلات بابل وأشور الحافظة لهذه الأرصاد. وعند حدوث هذه الظاهرة توقف الجيشان عن الاشتباك رهبةً منهما من سلطان الغيب، وتدخل بينهما وسيطان للصلح، أحدهما من كيليكيا السورية، وآخر من بابل العراقية؛ وخططا لقيادة الجيشين علاقات زواج ومصاهرة من أجل ديمومة السلام بينهما، كما يذكر ذلك المؤرخ هيرودوت (75:1).
ولكي يكون المرء وسيطًا كما كانا لا بد من كونه مسالمًا للفريقين. وهذا ما كانته بلاد العربية آنذاك، برغم خضوعها للفرس. كما نعرف ذلك من تقسيمات الولايات الفارسية التي أوردها هيرودوت (95:3).
بقيت هذه البلاد وسيطة بين الشعوب بجغرافيتها بين قارات ثلاث وبعرقيات سكانها وذهنيتهم المسالمة المبدعة. حيث طوروا الثقافة الهلينستية وقدموا للعالم الأفكار الأولى العالمية، المتجاوزة للقوميات والعصبيات خلال الفلسفة «الرواقية». ثم خلال المسيحية التي رفعت الحواجز بين الطبقات واللغات بمبدأ المحبَّة والتسامح. وقد قدمت بلاد العربية للعرش الروماني مجموعة من الأباطرة الكبار مع أشهر نساء التاريخ الروماني من بنات عائلة حمصية سورية، هن: جوليا دومنا، وجوليا ميزا، وجوليا سومياز، وجوليا ماميا. وهذه الظاهرة التاريخية وحدها خلال العهد الروماني تجعل هذه البلاد عصيَّة على التصنيف بين الشرق والغرب، ويكرِّس وضعها هذا النص القرآني الكريم القائل: «وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس.» (البقرة: 142). وهذا كان جوهر الرسالة المحمدية العدنانية قبل تفصيلاتها بانتشار الدين الإسلامي بين مختلف الشعوب والطبقات دون تمييز.
وتأتينا شهادة تصديق حديثة من علماء الآثار الحريصين دائمًا على مبدأ التصنيف. فهؤلاء العلماء عندما أدهشتهم الكشوفات الإبداعية لدى بعض الشعوب من سومريين وحوريين وميتانيين بحثوا عن رابط لغات هذه الشعوب مع سلالات أوسع معروفة، كالساميين والهندوأوربيين، فلم يجدوا أي رابط عرقي أو لغوي، وعندئذ اعتبروهم من أبناء الأرض ذاتها وأطلقوا عليهم تسمية «آسيانيين» تمييزًا لهم ممن تشملهم تسمية آسياويين نسبة لآسيا. وعند التعمق في الفيلولوجيا نجد عددًا كبيرًا من المفردات السومرية والحورية لا تزال قيد الاستعمال اليومي في اللغة العربية الحاضرة، بعاميتها وفصحاها، عدا عن توارث تسميات المدن والقرى، كما هي دون أي تغيير أو إبدال، حتى ولو كانت تلال آثار وبقايا خرائب، فهي مشمولة بتسمية «بلاد العربية» التي يتداولها الناس وتسود فيها اللغة العربية.
***
خلال التجارب التاريخية المتعددة نجد أن الثقافة الهلينستية وحدها بما تضمنته من اعتراف بحقوق الشعوب والأقليات ودعوة للمشاركة بالموائد الإنسانية العامة، كما كان الاصطلاح، هذه الثقافة نجدها تماثل ما يطرحه عالم الغرب اليوم بعنوان «الديمقراطية». وخليق بالبلاد التي طوَّرت تلك الفكرة العالمية وأوصلتها إلى مبادئ المسيحية مع بولس الرسول والإسلام مع علي بن أبي طالب وباقي الحكماء، خليق بها أن تطور هذه الأطروحة دون حروب ودماء، لتوصلها إلى ما يمكن أن تكون للعالم من أجل السلام ومعارف السلام. وهذا فعلاً ما نجده أو نتلمس ملامحه الأولى الباكرة في التجربة اللبنانية للديمقراطية الشاملة للجماعات إلى جانب حقوق الأفراد، أي ديمقراطية المجموعات، سواء العرقية أم الطائفية الدينية.
إنه الواقع الجغرافي التاريخي الإنساني، ومن حق هذه الأرض أن تعتبر تاريخها تراثًا إنسانيًا عامًا يستحق عناية المجتمع الدولي والسهر على حقوق إنسانها.

موضوع الحوار
في خاتمة محاضراته الرائدة في فلسفة التاريخ خلص الفيلسوف الألماني جورج ويلهلم هيغل إلى القول: «… إن تاريخ العالم ليس سوى تطور لفكرة الحرية… التي هي في حقيقتها الوعي الوجداني للحرية وليس أقل من ذلك.»
وهو رأى أن التاريخ يسير من الشرق الذي هو «آسيا» بالتحديد إلى الغرب الذي هو بالمطلق «أوروبا»، حيث تنتهي مسيرته. هذا ما ذكره في فاتحة محاضراته. وقد لفتنا إلى أن هذا التحديد هو نسبي في أرض كروية، وتشرق شمس مادية من شرقها لتغيب في غربها، حيث تشرق شمس من وعي الذات، فتنشر أشعة هي الأكثر نبلاً…»
كان هذا أبرز طرح للموضوع في زمن محاضرات هيغل سنة 1830م، وهو عمم فشمل مجموع آسيا ومجموع أوروبا في تصنيف الشرق والغرب، بينما كان هذا التصنيف محدودًا بالإغريق والفرس في الماضي، وغدا مع المسيحية، محصورًا بكنيسة شرقية وكنيسة غربية، أو أنه كان خلال الإمبراطورية الرومانية محدودًا بشرقها وغربها فقط.
أدرك هذا الخطأ التصنيفي بعض المفكرين الأوروبيين وشاؤوا إخراجه من منطق الجغرافيا فاستعملوا تعريفًا رمزيًا استعاروه من الميثولوجيا، متفقين به مع ما أراده هيغل من موضوع وعي الحرية الإنسانية في ذهنية الأفراد. وصفوا الذهنية الأوروبية بأنها «أبولونية» نسبة إلى «أبولون»، رب الإبداع والفنون، والشرقية «الديونيسية» نسبة لرب العواطف الدينية والعقائد الغيبية «ديونيسوس». وكان من هؤلاء «نيتشيه» في القرن التاسع عشر و«اسبنغلر» في أوائل القرن العشرين. وكان هذا التصنيف أقرب إلى التعريف المباشر: ذهنية العلم وذهنية الدين. وهذا ما تطرحه للحوار مشاكل الإنسانية المعاصرة في كل موقع واتجاه.
أما الفكرة التي طرحها هيغل حول نهاية التاريخ في أوروبا، وهي ما جدَّدها «فوكوياما» الياباني الأصل، فهي موضوع نظر ومنطلق حوار يستحق الاعتبار في طروحات الثقافة وبناء السلام من أجل كل الناس…
كان الشرق بعيدًا في زمن هيغل والغرب كان قريبًا منه قبل بروز أميركا. ولو حدثت موجة المد البحري المدمر «تسونامي» آنذاك، كما حدثت في 26/12/2004 لما عرف بها العالم، إلاَّ بعد أشهر وكأنها حكايات يصفها «ماركوبولو» للأوروبيين. ولكنها وللمرة الأولى تشعر الإنسانية بأنها الطبيعية ذاتها تواجه كل الناس على السواء، وعلى الجميع التعاون للمواجهة. وهذا ما حدث عند جمع مليارات الدولارات لإغاثة المنكوبين دون أي تساؤل عن دينهم أو اتجاهاتهم السياسية. وقد بدأت حركة الإغاثة هذه بعد ساعات فقط من وقوع الكارثة.
لقد غدا العالم أجمع اليوم ضمن إطار تاريخي واحد، هو الإطار العائلي، عائلة الإنسان. وهذا ما لم يكن في أية حقبة تاريخية ماضية. وهو يعني أن محرك التاريخ بدأ يأخذ مجرىً جديدًا بعيدًا عن الحقد والعداء القومي أو الديني أو الطائفي الذي لا زال مألوفًا حتى اليوم.
وليس من طرح عملي أصلح من الطرح الهيغلي: «الوعي الوجداني للحرية». فهو فقط يوصل إلى هذا المجرى السلمي بين الشعوب والمعتقدات. وقد حقق للشعوب الأوروبية ما هو بينها اليوم من تجاوز للعداء التاريخي وتعاون كبير من أجل خير كل أناسها والمتصلين بهم.
الوعي الوجداني للحرية هو الشعار الصالح للحوار بين الشرق والغرب. وليست الحرية الوجدانية المقصودة هنا هي التحرر من الآخرين، بل التحرر من كل المفاهيم التاريخية والعقائدية التي تحول دون الاقتراب من هؤلاء الآخرين والتعاون معهم بتكافؤ وثقة متبادلة. وقد أثبتت الوقائع أن عملية التحرر هذه لا تتم بالكتابة والتبشير والحوار الخطابي وحده، لأن الحريصين على عزلة مجتمعاتهم مستفيدون من تغذية هذه العزلة والوصول بها إلى التطرف ونشر قيم خاصة بهم وبها، وبالعداء للآخرين كمسلَّمة منطقية يقيسون عليها مخططات مستقبلهم وتقدمهم وانتصاراتهم ورؤى ما بعد حياتهم.

حوار التاريخ المعاصر
بدأ الحوار التاريخي المعاصر بين الغرب والشرق مع وصول حملة نابليون الفرنسي إلى مصر. هذه الحملة كانت بحق تحمل معها مشروع ثقافة حوارية حضارية، وضعت أساسًا لمفاهيم الحرية والمساواة والكرامة التي قامت لأجلها الثورة الفرنسية. ولم يكن هذا المشروع الحواري مرتجلاً أو ملحقًا فقط بالحملة العسكرية. فالذي يتابع النشاط الثقافي الفرنسي، وحـرص هذا النشاط على تفهم المجتمعات العربية، ودراسة ذهنيتها خلال ملاحظات المستشرقين والعلماء الفرنسيين الذين أقاموا في المنطقة، قبل حملة نابليون، يجد أن هذه الحملة اعتمدت أولاً على التخطيط الثقافي العملي لها. وهنا نورد ما كتبه ونشره «فولني» الفرنسي عن وضع المجتمع المصري قبل وصول نابليون بأكثر من عشر سنوات. فهو يذكر أن الأتراك كانوا يحذرون من نشاط الفرنسيين في مصر، بينما كان المصريون يتوقعون «انقلابًا في الحكم والدين والمصير…». كما يذكر في نهاية الفصل الثالث من كتابه المعنون «سياحة في سوريا ومصر خلال السنوات 1783-1785م». وفي مطلع الفصل السابع يكتب قائلاً: «… لقد عرف العرب كيف ينتصرون ولكنهم لم يعرفوا قط سياسة الإدارة.»
وحول الحرية وكرامة الإنسان يورد الوصف التالي: «… يسفك دم الرجل كما يسفك دم الثور، والقضاء ذاته يريق الدم دون أي تقيًّد بصيغة أو بشكل. فضابط الليل في طوافه وضابط النهار في تجواله يحاكمان ويحكمان وينفذان في لمحة بصر. يرافق كلاً منهما جلاّدون يقطعون الرؤوس عند أول إشارة يتلقونها، ويلقونها في أكياس من الجلد تجنبًا لتدنيس الأرض.» هذا ما أورده في الفصل الثاني عشر عن حالة الشعب في مصر. وحين يستطرد في وصفه لحالة الشعب في الفقرة ذاتها يقول: «… وما يحدث غالبًا أن يساق إلى محكمة «البك» الجشع رجل بوشاية تقول أنه ذو مال، فيفرضون عليه أداء مبلغ منه. وإذا أنكر قلبوه على ظهره وجلدوا قدميه مائتين أو ثلاثمائة جلدة، وقد يموت بهذه الطريقة… وللتخلص من اغتصاب ذوي السلطان كان على الناس أن يتظاهروا بالفقر والبؤس.»
يقابل هذه اللوحة الواقعية التي نقلها فولني عن المجتمع المصري نقرا لدى المؤرخ المصري «الجبرتي» لوحة مناقضة سجلها لسلوك الجيش الفرنسي بإعجاب وترحيب. فهو كتب قائلاً عن محاكمة الرجل الذي اغتال القائد الفرنسي «كليبر»:
«… خبر الواقعة وكيفية الحكومة لما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكِّمون العقل ولا يتدينون بدين وكيف وقد تجارى (تجرأ) على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم، بل رتَّبوا حكومة ومحاكمة وأحضروا القاتل وكرروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول ومرة بالعقوبة… بخلاف ما رأينا بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذي يدعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية.» (عجائب الآثار: ج3، ص116).
كان عبد الرحمن الجبرتي خريج جامعة الأزهر الإسلامية وهو ابن فقيه مصري. ولم يمنعه دينه الإسلامي من الترحيب والإعجاب بالمفاهيم الحضارية التي تعطي الإنسان حقوقه وتحترم كرامته. وبذلك يكون قد رحب بالمشروع الثقافي الفرنسي برغم رفضه للمشروع العسكري.
ولم يبق موقف الجبرتي موقفًا فرديًا في مصر، بل غدا موقف مجتمع بكامله مع تولي محمد علي للسلطة بعد رحيل القوات الفرنسية. فهذا جاء إلى مصر لمحاربة الجيوش الفرنسية، وما لبث أن تولَّى السلطة في مصر بطلب من المصريين أنفسهم. وقد تبنَّى المفاهيم الفرنسية للحضارة والإنسان، فأنشأ المدارس وأرسل بعثات للدراسة في فرنسا وحفر وأنشأ أقنية للري ونشر الأمن في أرجاء البلاد وأدخل إصلاحات عديدة، فنهض بمصر إلى مستوى متقدم وحارب التطرف الديني دون هوادة وبخاصة الحركة الوهابية في الجزيرة العربية، معتمدًا على جيش درَّبه له ضباط فرنسيون.
كانت نهضة مصر على يد محمد علي حصيلة حوار حضاري بين شرق وغرب. وكان من الطبيعي أن تنتشر هذه التجربة فتعم الإمبراطورية العثمانية بأكملها لولا تدخل الغرب ذاته لإيقافها دون وعي تاريخي لأهميتها ومحاذير توقفها. وهنا أرى من حقنا كمؤرخين أن نكشف الاعتبارات التي أعاقت مسيرة التقدم الحضاري في بلادنا بعد انطلاق شرارته الأولى في تلك الحقبة التاريخية من أرض مصر، لعل في هذا الكشف عظة للسياسيين.
لقد سار إبراهيم باشا ابن محمد علي على رأس جيش منظم تنظيمًا حضاريًا، فاحتل فلسطين وسوريا واتجه نحو البلاد العثمانية. وكانت المراكب الحربية العثمانية قد لجأت إلى مصر تخلصًا من الفوضى في الدولة العجوز. اجتازت الجيوش المصرية جبال «طورس» وأوشكت على السيطرة على السلطة. وعندها تدخلت مجموعة من الدول الأوروبية المناهضة لفرنسا، وكان على رأسها بريطانيا، فأنذرت محمد علي بالتوقف والاكتفاء بحكم مصر وحدها، فأطاع وعقد معاهدة معها سنة 1840م. وبذلك تأخر تحرر المنطقة من التخلف العثماني ما يقارب ثمانين عامًا عانى منها الأهلون الكوارث نتيجة للظلم وسوء الإدارة والثورات العبثية التي كان يحركها العثمانيون في سوريا ولبنان تحت راية الأديان والطوائف ورفض الخضوع لنزوات الحكام. وكانت حصة جبل لبنان وحده منها مائة ألف قتيل ماتوا من الجوع بسبب حصار العثمانيين بين 1914 و1918م.
كانت حجَّة بريطانيا هي الحرص على ممتلكات الدولة العثمانية، لكن الغاية الخاصة كانت مقاومة النفوذ الفرنسي الذي تحقق مع المشروع الثقافي الذي أخذ به محمد علي في مصر. وهنا نشدد على المشروع الثقافي الفرنسي دون العسكري، لأن فرنسا ذاتها أوقفت الحملة المصرية العسكرية على بلاد اليونان، عندما حاول المصريون إخضاع هذه البلاد للسلطة العثمانية التي كانت تحتلها، بينما هي تناضل من أجل استقلالها.
وحرصًا على إبراز حجم الخطأ التاريخي الذي قامت عليه معاهدة لندن المذكورة لنقص في الوعي الثقافي، نورد مقارنة بين جيش إبراهيم باشا بإدارة الضباط الفرنسيين وجيش العثمانيين التقليدي، وقد أورد هذه المقارنة كاتب دمشقي مجهول الاسم تحت عنوان «مذكرات تاريخية» فقال بلغته العامية:
«… وعساكر السلطان باركه (محتلة) في حمص. وصار لهم أربعة اشهر يتجمعوا وخبَّصوا كثير في إقامتهم هناك. إذ رعوا كل زرع حمص وفضحوا هلقدر نسوان وبنات أحرار وقطعوا الطرقات وعملوا عمل يرثى له. وأما إبراهيم باشا فجميع عساكره من حين طلوعه من مصر إلى أن وصل للشام ما عمل ثقلة على أحد… حتى في محل الأوردي (المعسكر) شجر المشمش حامل (نازل) فوق رؤوسهم ما كان أحد يسترجي يمد يده يقطع مشمشه ولا أحد يقدر يتّطلع (ينظر) في حرمة أو في ولد، لأن أولاد كثير بين العساكر في الأوردي ما أحد يقدر يتطلع فيهم.» (ص60)
ولم تكن بريطانيا ومصالحها بعيدة عن كابوس التخلف العثماني. فمذكرات هذا الكاتب الدمشقي المجهول تذكر أن القنصل البريطاني «فارن» المعين لدمشق لم يستطع الدخول إلى المدينة إلاَّ بعد سيطرة إبراهيم باشا عليها. فهو بقي مقيمًا في بيروت طوال أربع سنوات لأن التقاليد في تلك المدينة كانت لا تسمح بأن يركب الأجنبي غير المسلم جوادًا.
وقد دخل القنصل بموكب فخم وبرفقته أربعة وعشرون مرافقًا فوق الخيول يرفعون الأعلام، واستقبله أمير لواء على رأس ألف جندي. (ص94)
والسؤال هنا: هل لو كانت بريطانيا تعير الشأن الثقافي الحضاري اهتمامًا مثيل فرنسا التي أرفقت جيشها بجيش آخر من العلماء والباحثين والخبراء في فنون التطوير الحضاري، كان يبقى الشرق الأدنى مقفلاً في وجه الحضارة الغربية حتى الحرب العالمية الأولى؟
لقد كانت أبرز المستفيدين من التقدم المصري الذي توَّجه شق قناة السويس بإدارة مهندس فرنسي. فهي تمكنت بالشراء من امتلاك النصيب الأكبر من هذه القناة التي سهلت لها علاقاتها بمستعمراتها في الشرق.
وقد دام التجاهل للشأن الثقافي في بلاد الشرق، ومن قبل بريطانيا ذاتها، خلال الحرب العالمية الأولى. فهي التي رعت نشوء الدول العربية بعد الحرب، بل وعينت حدودها، دون أي اعتبار للكوامن الثقافية التي كان يعالجها محمد علي وفق مبادئ الثورة الفرنسية الثقافية. بل إن المؤرخ الذي يطلع على المساومات السياسية بين فرنسا وبريطانيا وبوجه ما تركيا، لا يتردد في الحكم بأن التسويات التي حدثت بينها تمت دون أي اعتبار تاريخي أو تقدير مستقبلي لما يمكن أن ينشأ من سلطات بعيدة عن ثقافة الحكم وحقوق الشعوب، إن لم تكن تصر على نشر الجهل والتضييق على المستنيرين كي تبقى هي المستبدة المتسلطة على مقدرات البلاد.

تذكير للاعتبار
لقد طغت المطامح السياسية والأطماع الاقتصادية الآنية حتى الآن على كل القيم الإنسانية والاعتبارات الثقافية، لدى القادة والمخططين الغربيين. وليس من النادر أن يحصل الطغاة والمستبدون على دعم ومساندة تعادل المساندة التي كان أسلافهم يقدمونها للدولة العثمانية وسلطاتها الجائرة. وحين نعتبر الثقافة شاملة للتربية المدنية والعملية والتنظيم الإداري والسياسي والوعي لحقوق الفرد وواجباته نحو مجتمعه ونحو الآخرين، لا نجد أحدًا من الغرب تقدم بمشروع ثقافي، أو ساند على الأقل بصدق على نمو هذا الاتجاه الثقافي لدى الشعوب الشرقية، منذ حملة نابليون الفرنسي حتى عهد قريب، حيث بدأنا نرى تبرعًا ببعض الخبرات البريطانية بوجه خاص…

ولا أجدني أحسد المؤرخ البريطاني المنصف عندما يكتب عن مقاومة بلاده لمشروع محمد علي الذي كان يحارب التطرف الديني ويحاول القضاء عليه في مهده وفي كل مظاهره وسلوكياته، بعد أن غدا هذا المهد ذاته يتنكر له ويحاربه. عنيت بذلك الدولة السعودية المعاصرة التي تستنكر التطرف الديني الذي غدا خطرًا على كل مجتمع يوجد فيه.
كما لا أحسد المؤرخ الألماني عندما يكتب عن تحالف بلاده مع الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وسكوتها عن سلوك هذه الدولة مع رعاياها في القارات الثلاث. وبخاصة بعد أن تنكر الأتراك ذاتهم لدولتهم، وانقلبوا على مفاهيمها بقيادة كمال أتاتورك. فهل لم يكن ذلك انفصامًا ألمانيًا بين الوجه الثقافي الفلسفي والفني لألمانيا ووجهها السياسي غير العابئ بمدلول الحريات والقيم الإنسانية؟
ومع ذلك كانت ألمانيا وستبقى لنا بلاد هيغل وكانت وغوت وبيتهوفن وكاسيرر وغيرهم من كبار المثقفين المبدعين.
وأخيرًا ماذا سيكتب المؤرخ الأمريكي عن مسؤولية بلاده في تغذية العصبية الدينية في «أفغانستان» وغيرها، بحجة مقاومة الشيوعية الملحدة؟
فهل غير سياسة بلاده «البراغماتية» السطحية مسؤولة عن خلق حركة «طالبان» والقاعدة وإرهابيي العالم الانتحاريين بفعل التطرف في فهم الدين، والدين منهم براء…؟
إنه غياب الثقافة والوعي التاريخي عن السلطات السياسية والأطماع الاقتصادية. ولو كان للمخططين في الحروب من يثقفهم بالتاريخ لعرفوا وترددوا في استغلال الدين، عرفوا أن عصبية الخوارج قضت على علي بن أب طالب أنبل مفكري الإسلام وعصبية الدين المسيحي أحرقت «برونو» وسجنت «غاليليه» وأحرقت الآلاف من الرجال والفتيات الجميلات انتصارًا للدين. وهي إن تكن برزت بوضوح مع منتحِّري برجي نيويورك وآلاف الضحايا فيهما فمجراها لا يزال مفتوحًا لاحتضان كل من فقد الاتجاه نحو الوعي الوجداني للذات، كما افترضه هيغل لزمننا التاريخي الحديث…
ولعلَّ المشكلة المطروحة للحوار والعمل الآن هي ما مثلته فوضى بلاد العراق إن لم يكن نيابة عن كل الشرق فعن شرقنا وحده، الشرق الإسلامي العربي. وقد لخص بيان للزرقاوي أحد قادة تنظيم «القاعدة» المتطرفين هذه المشكلة بقوله عن الانتخابات الديمقراطية وفق الطريقة الغربية: «الحكم لله وليس للشعب، لأن الديمقراطية مبنية على مبادئ غير إسلامية مثل: حرية المعتقد وحكم الشعب وحرية التعبير والفصل بين الدين والدولة وتشكيل أحزاب سياسية وحكم الأكثرية.» والمرشحون للانتخابات هم أدعياء للربوبية والألوهية. (الحياة: 24 كانون الثاني 2005).
ومقابل هذا الموقف الإيماني الغيبي باسم الدين نسمع ونقرأ عن حوار أوروبي واقعي جرى بين المشرعين العاملين لوضع دستور للاتحاد الأوروبي بتاريخ 7/6/2003، حيث رفضوا ذكر الدين أو الله في الدستور، لأنهم لا يريدون إلزام الأجيال المقبلة بمعتقدات الأجيال السالفة كما قالوا.
وهكذا نجد أمامنا موقفين ثقافيين متناقضين يبحثان عن حوار يوفق بينهما… غير مهملين التذكر بأن أسلاف الفريق الأول قدموا للإنسانية علماء مثل: البتَّاني، الخوارزمي، ابن الهيثم، ابن سينا، الكندي، وابن رشد وابن خلدون وأمثالهم.
بينما أسلاف الفريق الثاني الحريص على حرية الفكر والاعتقاد حتى لأجيال الأحفاد، كان بينهم أيضًا من أحرق كتب العلم والمعرفة واضطهد العلماء وجمع الجيوش لمحاربة الشرقيين تحت راية الدين والاعتقاد بمكافآت السماء…
وحين وعينا لهذه الجدلية التاريخية بين فريقين، لا نجد لدينا ما يؤهلنا للتدخل سوى الإيمان بأنه لا بدحوار من الوصول إلى كلمة سواء، حين الاستمرار والإصرار…

Jabal 'Amelat

Jabal 'Amelat
The History Through Eponyms in South Lebanon B.C.
By Dr. Youssef el-Hourani

Introduction
Wherever we go in South Lebanon, we find ourselves surrounded by traces and footprints of ancient civilizations. If we are interested in studying history through language, with whoever we talk of the inhabitants of that area, we find still alive something to remind us of those who once lived there. Man's story in Jabal 'Amelat in South Lebanon, began long before History. The natural shelters, like those picturesque caves in the "Zahrani" river valley, testify to man's existence by means of his implements and primitive elaborations, notwithstanding the fact that archeologists have not yet reached all the historically important sites there.
The mountains, hills, valleys, meadows, slopes, springs, fountains, rivers, natural shelters, and everything in that neighborhood, were attractive to a man looking for a land fit to be his home, and afford him protection, not only against foes, but also against the hardiness of nature found in other lands. Here everything and every event is moderate, and invites man to start a social life by building hamlets, villages and sanctuaries which he could bequeath to his successors.
That the nature of the land supported a social life in a continuous manner since thousands of years, is witnessed by the continuous use of very ancient names for the ruins and localities, small valleys and petty springs…
Convinced as we are of the existence of a very early and sustained social life in Southern Lebanon, we were able to appreciate the importance of eponyms designating villages or localities as clues for the study of the civilizations and cultures of the area.
When we use names that we consider well-known eponyms, we do not bother, as some scholars do, to give linguistic explanations. That is because our aim is not to investigate every name found on the map, but to choose only the names that are unequivocal and supported by evidences from historical texts, traditions or other data; such as the presence elsewhere in the area of names belonging to the same culture. Therefore, we refer to many cultures by means of the names of localities they once occupied.

The Hurrite
The first key name we came across is Kura, an obscure divinity who frequently turned up before Giovanni Pettinato in the pantheon of Ebla, the ancient Canaanite city in Syria. Pettinato said of him: “… an important but still unidentified god.” He then added, “There is frequent mention of offerings for the god Kura and for the god Mul (Jupiter)”. This god, ambiguous in Ebla, has an important ancient settlement to his name in the vicinity of Rmeish, a village in Southern Lebanon, in Jabal 'Amelat. It seems that his ambiguity arises from the impossibility of determining whether he was a Canaanite or a Hurrite, since Ebla had a dual Canaanite and Hurrite society.
The existence of the god Kura in this location, near Rmeish, does not essentially assert his identity. However, it supports the theory that Hurrities have lived in this area and encourages us to consider him a celestial god or a star, like his companion Mul in Ebla. That's because we find, within a radius of less than five kilometers around the Kura mound, the name of Hurrite celestial gods still in use: the village of Kosah, the ruins of Samoughi, 'Aita el-Sho'b, 'Alma el-Sho'b. The names of these three Hurrite gods appeared together in a treaty in Acadian language, between kings Suppililiuma and Kurtiwaza. The text invokes the hurrian gods, Teshub, the lord of heaven and earth, Kusuh and Simigi, meaning the storm god, the moon god and the sun god. To this group of famous hurrian gods, we should add, in this same restricted area, more precisely to the East of Yaroun, the god Adama.
Adama, as a hurrite god, is mentioned in the pantheon of Ebla, and his feast occurs in the ninth month. The site bearing his name is an important ancient mentioned in the Book of Joshua (19:35, 36). Its present name is 'Ain Dama, and it dominates the main or el-Sultani road (King's way), which was the road followed by the chariots of Egyptian monarchs to reach Syria.
It is worth mentioning in this respect that the Bible does not mention anywhere the presence of Hurrians in this region during the latter part of the second millennium B.C., despite the fact that they had more than one center in Southern Lebanon.
We recognize the name of the great hurrian god Teshub in the name of Kfar Shuba, a village at the slope of Mount Hermon; and that of the great hurrian goddess Hebbat in the name of Habboush, in the vicinity of Nabatiyeh. The existence of an antique settlement named Sharma to the north of Habboush confirms this hypothesis since Sharma is, according to the hurrian pantheon of North Syria, the son of the goddess Hebbat. However, there is no mention of this god in the pantheon of Ebla along with Hebbat and her spouse Teshub.
The Egyptian records of Amenhotep II (c. 1447-1421 B.C.) which bear a list of the plunders of the land of Retnu, testify to the dense presence of the Hurrians in this area; for we read: from the 'Apiru: 3600; from the living Shasu: 15200; from the Kharu (Hurrites): 36300; from the Neges: 15070. Thereupon, we find that the records of Seti I (1318-1301 B.C.) refer to South Lebanon as the "range of the Kharu mountains", specifying that the Shasu (Bedouins) were plotting a rebellion, and that their tribal chiefs had gathered in one place.

The Canaanites
The Hurrians seem to have occupied an area in South Lebanon, where the names of the Canaanite gods dominate the ancient mounds, mountains and settlements.
From the beginning of history, this area seems to be in close relation with Egypt, as is attested by the correspondence of well-known proper names with villages and shrines worshipped here. Most famous of these names, is that of the god Sheth, who is a very ancient god, detested throughout a great part of Egypt's history. We find in this area a group of villages and shrines named after him: Jeb-Sheth, Had-Sheth, Bar'a-Sheth, and Nabi-Sheth. This god is called nabi, which means prophet. According to the Bible (Gen 4:25), he is Adam's third son, and the Moabites who lived in Transjordan, are reputed to be his descendants (Num 24:17).
In an execration text dating from the Middle Kingdom period (18th – 19th century B.C.), three of the rulers of these villages, referred to as Shutu, were rebellious and cursed magically by the King. They are Ayyabum, Kusher and Zabulanu (Ayoub, Kawthar, Dheblan). It seems that the village name Kawthariet is associated with the second of these names.
We also find, in the same text, mention of the rulers of two cities associated with the god Selm. They are Yakar-‘Ammu and Sej-‘Anu (Sej’aan). Let us stress that this text was written prior to the meeting of Abraham and Melchizedeq where the name Ur-Shalem first appeared. In the vicinity of the Sheth villages, we find two villages whose names are composed with Selm: Khirbet-Selm (ruin of Selm) and Majdel-Selm (fortress of Selm). Personally, we believe that these two sites were those which rebelled against the Pharaohs. Moreover, there is another village, not far away, having a sanctuary associated with this god: 'Arab-Salim. Since the name of the sanctuary is Nabi-Salim, we may conclude that the original first part of name of the city was Rab and not 'Arab. Our hypothesis is corroborated by the presence, nearby of a locality whose name is composed with Rabbat (the feminine of Rab): Rabbat Lateen (goddess of the Litani). Let us remind, in this connection that, at a given epoch, the gods were called rab (lord) instead of EL (god).
The same Egyptian execration text mentions two cities by the name Yarimuta, which correspond to the enigmatic, rich and well-organized city, which is mentioned in the letters of Tall 'Amarna. Personally, we are inclined to identify them with two localities in the neighborhood of Saida: 'Aramtha, on the hills East of Saida, and the second is the city further South, near the Zahrani river, which Strabo called Ornitho (16:2, 24). The ruins, vestiges and water reservoirs found on this site, encourage us to identify it with the famous and rich Yarimuta of the second millennium B.C., especially since, with the exception of Starbo's note, in the first century A.D., the site is not mentioned anywhere. It is described today as Tell Brak (the hill of water reservoirs).
We noticed in the same area that an ensemble of Canaanite names of gods and goddesses are given to villages and localities. Sometimes, they are mentioned in groups in Egyptian texts of the second millennium B.C. The presences among them of obscure names prompt us to identify them as Canaanite, and clear up the origin of these names in the area. Here is an example:
A woman from Memphis wrote a supplication to several gods, saying: "… To the ennead who are in the house of Ptah, to B'alat, to Qadesh, to Meni(?), Baali-Zaphon, to Sopdu." All these gods of the Ennead appear to be purely Canaanite, beginning with their chief, the god Ptah, one of the Phoenician "Cabirim". Herodotus, the Greek historian, described the Ennead of Memphis in the 5th century B.C. during the occupation of the Persian Cambyses, saying: "… He entered the temple of Hephaestus and jeered at the god's statue. This statue closely resembles the Pataeki, which the Phoenicians place on the prows of their warships… The Cabiri resemble the statue of Hephaestus and are supposed to be his sons." The historian here gives Ptah the Greek name Hephaestus, but mentions also his Phoenician name, Patacki, which is the god's original name under which he is worshiped by the Canaanites and the inhabitants of Memphis.
Baalat and Qadesh are two goddesses. The first, Baalat, denotes the spouse goddess and is recognizable in the name of the village Blat. The second, Qadesh, is the name of a village and a sanctuary East of 'Atheroon Meni (the reading is uncertain), remains unidentified. Baali-Zaphon is easily recognized in the name of the mountain and Nabi-Safi.
The god Sopdu offers a problem because we have in the area a village called Safed El-Battikh, and there is a city in Galilee called Safed El-'Ali for discrimination. The distance separating the two villages is about 35 kilometers. A question arises: does the name of the first village refer to the god Sopdu-Ptakhi, in which case Sopdu belongs to the Ptah Ennead? If so, we should not neglect Herodotus's remark that Sopdu and Ptah are a father and son. Furthermore, this hypothesis will help us to identify the name of Ptah with the village of Beit Yahoon, considering that the original name may have been Ptah-oon. Close to these two villages, there is a village called 'Aita El-Zet. The word 'Aita means home or place or residence, and we are inclined to consider that the word Zet is a form of Zed, a tree, symbol of Ptah, which alludes to the resurrection of the god, and is commemorated in an annual festive ceremony. Consequently, we are inclined to believe that the locality may have been an ancient sanctuary where this ceremony was held.
Before leaving Ptah-oon, we would like to point out that the suffix "oon", in this name as well as all the names ending with this suffix, e.g. Yaroon, 'Atheroon, Maroon, Shal'aboon…, are Semitic and means shelter, building lodging. Let us add that this word occurred in the same vocal form in the Egyptian hieroglyphs in the form of a "column with a tenon on top".
There is another comment we wish to make about Ba'ali-Zaphon. Budge reported a goddess called Baalat Zaphon in connection with the name Bairtha. Not far from the sanctuary of Nabi Safi, east of Sidon, there is a village called Bairtha.
On a stele, which is now in Vienna, we see the goddess Qadesh standing on the back of a lion and flanked by the gods Min and Reshef. The goddess is naked and the gods carry Egyptian emblems. Moreover, and on the same stele, but lower down, the goddess 'Anat is represented in a long dress and wearing the Egyptian white crown adorned with the plumes of Maat (Justice). She holds in her right hand a lance and shield; and brandishes a club or axe in her upraised left hand.
The goddess Quadesh is an important character in Canaanite history. Her name was given to their famous capital, Quadesh on the Orontes, as well as on an important promontory, which they occupied on the shores of the Atlantic Ocean during the last century of the second millennium B.C. Quadesh is also a village with a sanctuary having peculiar traditions in the vicinity of 'Atheroon. As the traditions forbid the man of entering the sanctuary facing the naked goddess, they enter treading backwards.
Min, so far, is unidentified, whereas Reshef is a famous god and has a village in his name. Besides this village, there is a formidable valley, at present called Wadi el-'Eyoon. We are inclined to believe that the scribe of Ramses V (12th century B.C.) was referring to this valley when he wrote: "The valley of Reshef in the land of Khato."
'Anat is the principal goddess in the ugaritic texts. The Pharaoh Seti 1st (1318-1301 B.C.) called one of his cavalry brigades 'Anat is satisfied. Furthermore, in one of the inscriptions of Ramses III (12th century B.C.), we read: Montu and Seth are with him in every fray, 'Anat and Astarte are a shield to him.
In the place of 'Anatha, there once was a village by the name of Beit 'Anat that was mentioned by Ramses II (1301-1234 B.C.), as well by Joshua (19:38). Today, in Bent-Jbail, there is a square called the Square of the Prophetess, in which there was a shrine that received offerings from the inhabitants until it was destroyed fifty years ago.
We read in the text "Jabal Beit-'Anat", when Ramses II mentioned it as Karbo (Karhaboon), in the vicinity. Therefore, we suppose the name Bent-Jbail is a title of the famous goddess who owns the shrine in it.
For the lack of Canaanite texts, we are bound to use Egyptian texts extensively. While studying these texts, we realized that the Canaanite gods were not strangers in Egypt, particularly throughout the royal texts of the second millennium B.C.
Indeed, the sanctuaries of these gods were very popular and worshipped by the Pharaohs themselves. This means that the exiguous land of South Lebanon where these sanctuaries existed was valuable and deserved the care of the Pharaohs. It seems to us that this is the reason, which led Ramses II (1301-1234 B.C.) to build a town in the name of the god Amon. Its ruins, in the vicinity of Ya'ther, still bear the name given by the Pharaoh, Meryameen (Meri-Amon). The text itself situates the locality: "… His infantry went on the narrow passes as if on the highways of Egypt. Many days after this, His Majesty arrived to Ramses Meri-Amon, the town which is in the valley of the cedar. His Majesty then proceeded northward until he reached the mountains range of Quadesh…"(15).
Geographically, this means that the King crosses, with his infantry, the narrow pass of el-Naqoura, then he went up through the Wadi el-Oyoun valley, to Meryameen. He then marched through South Lebanon and reached the Beqaa valley where the Kadesh mountains range begins.
The valley was wrongly referred to as the Valley of the Cedars. However, this mistake occurred also in the Myth of the Two Brothers, Anubis and Bata, in which the self-exiled Bata settled down and married. Fortunately, the name of the mound and the detailed description of the course followed by the Army solve the difficulty of the name of the valley, and lead to conclude that it was the above-mentioned Valley of Reshef.
The historian Renan noticed with astonishment a very beautiful swimming pool with a stone-ladder among the ruins of the royal city of Meryameen. He made a detailed description of this when he visited the site in the middle of the 19th century.
Remses III (1195-1164 B.C.) erected a temple to his god Amon "in the land of Djahi, like the horizon which is in the sky… The foreigners of Retenu came to it, bearing their tributes, in consideration of his divinity.".
On the other hand, Ramses III built what the text describes as the "Marvelous House" to be a political center, which will receive the taxes of the foreigners. The text leads us to believe that it is on a hill with a good view and accessible to chariots. Such locations are abundant in South Lebanon, the land of ancient gods. We suppose the site is the locality of the village Arzoon, for an epithet of Amoon is arzoon when he deals with justice.

The Osirian group
So far, we have dealt with the eponyms of localities that unquestionably belong to Canaanite or Hurrite characteristics and traditions. Now, we shall turn to gods reputed to be Egyptian in cults and traditions. The most important of these gods is Osiris. His cult, as a popular god, was identical to that of the Canaanite Ba'al and the Babylonian Tammuz.
He appears in the Babylonian Epopee of Creation under the name Asaru, as an agrarian divinity, having the same attributes as in the Egyptian and Greek patrimonies. This Azaru (Osire) has many localities in his name in the land of Canaan. Most famous of these is Hazor, an ancient city close to the border of South Lebanon. Similarly, there is an ancient locality in the vicinity of the village of Deble called 'Ain Hazor, and, a village East of Saida called 'Azoor, with a sanctuary to Nabi 'Azoor (the prophet 'Azoor). All these are evidences to the dignity and the importance of the name.
The consort of 'Azoor is his sister Isis. If we drop the Greek suffix from this name, we obtain Isi, the name of continental Tyre, and the name of Izzi, a village west of Nabatiyeh. The name Izzi is also found in the vicinity of Tyre in the form of Izziyet-Ma'araka and may mean only the sanctuary of the goddess Isis, who may be the same as the Arab pre-Islamic goddess El-Uzza.
The second female divinity in the Osiris group is Nepti (after eliminating the Greek "s"). This goddess is the consort of the famous god Sheth, whose rich and important vestiges, we have already met. She had the right to hold in her hand the awas, symbol of Sheth, despite the fact that she sided with his victim, Osiris. Her name is recognizable in Nabetiyeh, the center of the cluster of cities named after Sheth.
Renan, the eminent French historian, noticed a statue representing this goddess in Um Al-'Awameed, as he studied the site in the 19th century.
So far, the town Nabatiyeh was related to the Nabateans who lived in the Transjordan. Nevertheless, we believe that the Nabateans themselves are related to Nepti and to Sheth, since Nepti is not only used as the goddess's name, it's also used as an epithet coupled with Sheth, as in the name of a Pharaoh 'A-Pehti-Sheth-Nepti. We also should remember that the Moabites who lived in Transjordan were referred to, in the Bible, as the "children of Sheth" (Num 24:17).
The myth of Osiris is closely associated with the Lebanese shores, with Byblos in particular. However, the toponymy of Lebanon encourages us to look for South Lebanon as the cradle of the Canaanite myths and divinities.
Before ending this toponymic study, it is necessary to consider the text of Sanchoni Aton, the Canaanite historian of the (8th century B.C.?), translated by Philo of Byblos and quoted by Eusebius of Caesarea.
Sanchoni Aton identified Sheth with Dagon, a well-known Semitic god. We tend to adopt his point of view, because of the total absence of the name Dagon in South Lebanon, despite the preponderant position it holds in the texts of Ugarit and Ebla. He also referred to Osiris as the brother of Chna', who changed his name to Phoenix.
Sanchoni Aton also called the first mortal man Aeon. This name is found in Marj-aeon (the plain of Aeon) and in Majdel-aeon (the citadel of Aeon). The first name appears in (1Kings 15:20) and (2Kings 15:29). This Aeon was highly revered by the Canaanite, so that Hosea (4:15) warns the Hebrews "not to go up to Bet-Aven, nor swear the Lord Liveth". Furthermore, the original name of Heliopolis, in Egypt, is Ioun, as in the name of the Lebanese cities, although in the Bible it's called Oon (Gen 41:45).
Sanchoni Aton also designated Sydek as the father of the seven Cabires, with Askleplus as their eighth brother. Sydek has a city and a sanctuary in his name near the city of Tebneen. His sanctuary is still visited and receives vows and donations.
He also mentions the goddess Hora who was sent by Ouranos to confront Cronos. We find her name in Wadi Hora, near Kfer Kella. Hora is eulogistically mentioned in the Iliad, and given a Semitic physical description: "The ox-eyed lady Hera" (1:551). Also mentioned two daughters of Cronos: Proserpine (Persephone) and Athena. The first died virgin. There is disagreement among the classical authors concerning both the name and the character of this goddess. Her name may be found in Srobbeen, and her sister's, under the form of Ba'alat, in Blat, two villages in the vicinity of Tyre.
The eighth son of Sydek, Asklepius, also known as Eshmoun (meaning Eighth). He is the god of medicine and has a considerable sanctuary in his name North of Sidon in the vicinity of the River Awali.

The Cadmean Group
Let us now turn to the semi-mythical Cadmean group which is well-known in Greek mythology, and to the names of sanctuaries and cities having an Arabic resonance, in particular those which bear the title Nabi, as Al-Khodher, Al-Jaleel, Edrees, Munther and others.
In this respect, we need first to understand what Strabo said about the Arabs in that area. He wrote concerning the ancient inhabitants of Euboea: "… And in ancient times, some Arabians who had crossed over with Cadmus lived there."
We infer that the Arabs were known on the shores of the Mediterranean by this name during the second millennium B.C. This passage from Strabo could not be of his imagination nor a mistake, since he criticizes elsewhere in the book such mistakes and forgeries; and attributes to Zeno, the stoic philosopher the correction of Homer's Erembians to Arabians (Od. 4:84), although he adds that the Syrian Poseidonius used the name Arambians.
In line with this view, we may consider that the Shasu tribes who were plotting against Seti I (1318-1301 B.C.) on the Kharu mountains (in South Lebanon), were Arabs, the tribes of Shath.
However, let us continue our search for cadmean names. The story says that Agenor came from Egypt to the land of Canaan where he married Telephassa and begot from her Cadmus and his brothers. We find her name in Telloossa, a village near Marj-aeon. She was also known by the name Argioba, which we recognize in the name of the 'Argoob area at the foot of Mount Hermon. This name belongs to the second millennium B.C. and is sited in the Bible (Deut 3:4; 13:14).
Cadmus has a daughter called Semele, and we recognize her in the ancient site of Shmailah near Nabatiyeh. Cadmus also had two cousins from his uncle Belus: Cepheus and Phineus. We recognize Cepheus's name in Deir Keifa, and the name of his wife, Cassioba in Kussaibi. As for the location of the place where Cepheus's daughter Andromeda was offered to the sea monster, most scholars place it near Jaffa, Cepheus's kingdom, but Frazer locates it on South Lebanon shore, and the rock to which the girl was tied, is a promontory near Tyre. We have great respect for the opinion of Sir James Frazer in such matters, and consider that the proximity of the site to Deir Kifa adds credence to his hypothesis.
Let us not forget Phoroneus, Agenor's great grandfather, who was credited with being "the first man to gather people to form a community… Argos, the son of Phoroneus's daughter reigned after him and gave his name to the region". We find his name in Froon. There is also another cadmean personality, Theras, who gave his name to the island of Thera; this, according to Harodotus, happened eight generations after Cadmus (4:149). We also find his name Toura and Teeri, two villages in South Lebanon.
The Canaanites who settled in Argolis, called themselves Sons of Abas. There is a mountain named after this patriarch: Mount Abas in the island of Gadira, on the shore of the Atlantic Ocean. This region was inhabited by Canaanites as from early second millennium B.C. Pausanias reported that: "The people Abai came to Phokis from Argos and named their city after its founder Abas, son of Lynkeus and Hypermnestra, Danaos's daughter". Abas's name is alive in the city of Abbassieh. Although, Abas sounds purely Arabic, it may be a key to explain the relation of the Arabs with Cadmus, as reported by Strabo (10:1, 8).
Moreover, we cannot disregard noticing the similarity of the names of the Lebanese city of Taybeh with Thebes, Cadmus's Greek capital; nor of the Greek Euboea and the Lebanese valley 'Ouba, where there is a famous rock, which serves as an example in the region of 'Atheroon and Kaphereus. Kapher is a Semitic word means village, whereas Kaphereus, according to Strabo, is a caps in Euboea (8:6, 2).
At this stage, we need to point out to two ancient sanctuaries in South Lebanon, which denote Arab influence in South Lebanon: Idrees near El-Ghazieh and El-Khoder in Yaroon. Idrees, is the Arabic name of Thot, Hermes, Mercury and Enoch. El-Khodr is the Arabic name of Adonis, it means greenness, which is specially associated with Adonis-Tammuz.
At any rate, every sanctuary in South Lebanon, regardless of its name, has its specific traditions and religious standing. For example, men enter backwards to the continuing sanctuary of Kadesh, with regard to her nudity.

The First Millennium B.C.
South Lebanon was prosperous and densely populated with Semites at the beginning of the first millennium B.C., under the hegemony of Tyre and its king Hiram. His kingdom was a refuge for all those who fled from the wars in the region. The registers of Shalamanasser III (858-828 B.C.) reported, regarding his wars with the Arameans in South Lebanon: "I marched as far as the mountains of Ba'li-Rassi, which is a promontory and erected there a stele with my image as King. At the same time, I received the tribute of Tyre, Sidon and Sehu (?), son of Amri."
We have two promontories (Ras) in South Lebanon: Ras el-Naqoura and Maroon El-Ras. The word Mar means Lord, or Ba'al, and the suffix oon means shelter or residence, as we have seen earlier. Hence, Maroon el-Ras may well be the Ba'li Rasi in the stele. Therefore, we are inclined to believe that it is this promontory that the King reached, especially since his Army was coming from the East with Chariots, and could not attain Ras el-Naqoura, which is protected by thick forests and narrow passes.
There is no trace of the Arameans in the toponymy of the area, because they came to a land already densely populated and not as enemies, but rather as members of the same family. Consequently, there are no sanctuaries in the South dedicated to the Aramean Ba'al Hadad, as we find in Beirut, Baalbek and El-Jebbi in North Lebanon, where these sanctuaries of Hadad have become villages carrying, at once, his name and the name of the locality, which it served. Hadad-Beirut, Hadad-Ba'albek and Hadad el-Jebbi.
Nevertheless, there are names in the area that cannot be explained except with reference to the Arameans. The first of these is Majdel-Zoon, and we propose to identify Zoon with the wrecking bird Zu, which fought against Ba'al, and was prominent in the yearly Assyrian and Aramean festivities in Northern Syria celebrating that fight. It could also be the missing link between the Zu of Mesopotamia and the Zeus of Greece. We note that both are associated with the sky and the clouds…
The second is Abu el-Rekab, in the vicinity of 'Aramtha, East of Sidon. This sanctuary is still revered in the area. We believe that its original name was Bar Rakab, the name of a famous Sham'al King of North Syria, at the foot of the Amanus Mountains. Moreover, that King erected a stele in which he mentioned Rakab El as the specific god of his family.
It is worthwhile to note that the Sham'al language, as well as the names of the deities and men, closely resembles those of South Lebanon. For example, the gods are: El, Ba'al Shamem, Ba'al, Reshef, Ba'al Samad, Ba'al Hamman, and the names of the monarchs are: Hayya(n), Gabbar.
We believe that the village of Kfar Hamam, on the slopes of Mount Hermon, is named after Ba'al Haman, and that Beni Hayyan, near Naqoura, is named after Hayyan and, in the village Yahoodiya (Sultanieh), we recognize the original name of Sham'al, Y'D,Y.
The name of the 'Amilat tribe was mentioned for the first time in Assyrian records in the eighth century B.C. It was mentioned alongside with well-known Arabian tribes, namely: Hamarani, Luhuatu, Rabihi, Nasiru, Ubudu, Rubu, Amlatu, and others that were subdued by Teglat Phalassar III (745-722 B.C.). They considered these tribes Aramean, but did not locate them. This leads us to appreciate fully the ancient traditions, which refer to South Lebanon as the 'Amelat Mountain.
The Chaldaeans invaded the region in the middle of the first millennium B.C. Their king Nebukhod Nassar II besieged Tyre for 13 years (585-572 B.C.). His wars against the Egyptians in the region lasted for about fifty years (605-562 B.C.). He recorded an alliance and support with the Lebanese on a rock in Wadi Brissa, in the Beqaa, saying: "I organized my Army for an expedition to Lebanon. I made that county happy by eradicating its enemy everywhere. All its scattered inhabitants, I led back to their settlements…".
To that epoch, we dated back the founding of sanctuaries to the Mesopotamian goddess Sarpanide, consort of the god Mardukh. One of these sanctuaries is at present the village of Sarafand on the seashore of South Lebanon, the other is near Mount Carmel. Nebukhod Nassar was greatly devoted to this goddess and erected to her sanctuaries everywhere he went.
To this same epoch, we dated the use of the word Nabi for Canaanite gods. The word occurred as an epithet to the god Mardukh in the Brissa inscription. It was widely used in the Mesopotamian texts. In South Lebanon, there are many sanctuaries and shrines with names proceeded by the epithet Nabi or Nabeyet, which today means prophet.
This habit of giving the local gods epithets or titles, is in line with the Phoenician's inclination to monotheism as in the Azitwadda text of Adana, in which El is referred to as: "El, the Creator of the earth and the eternal sun, and of the assembly of the children of the gods". The text is dates back to the eighth century B.C.
When Strabo visited the Region in the first century A.D., he noticed that: "All the mountainous parts are held by Iturians and Arabians". We are inclined to find the trace of the Iturians in the village of Haitura. Strabo also said, concerning the Galilee: "It is inhabited in general, and each locality in particular, by Egyptian, Arabian and Phoenician tribes, and such are the inhabitants of Galilee, Jericho, Philadelphia and Samaria.".
Flavius Josephus confirms the existence together of all these nationalities, specifying that they used tyrian currency.
It is worthwhile in this connection to discuss the origin of the name of the district East of Tyre. The ancient authors Galilea Gentium named it. Moreover, St. Jerome used this appellation in localizing the Gospel's Cana of Galilee. The question is: From where came this name…?
St. Jerome used the word Gentium to mean other than Jews. Nevertheless, what is about the word Galilee?
There are two sanctuaries in South Lebanon dedicated to the Prophet Al-Jaleel: one is in El-Sharkieh village, and the other is in Cana, where Christ performed his first miracle, converting water into wine.
Moreover, St. Mathew called the woman who came from the coastland of Tyre and Sidon "Canaanite" (15:22).
During the first millennium B.C., Persians, Greeks, and Romans, succeeded each other in occupying South Lebanon. Although they left considerable monuments; e.g. the aqueduct, East of Sidon, dating from the Persian period, there is no trace of them in the toponymy, except, perhaps to a little hamlet called Eskandarona, which was supposedly one of Alexander's military camps.
Furthermore, Renan suggested that the gigantic ruins of Um el-'Awameed may have been the ancient city of Laodicea of the Seleucid period. However, the important vestiges of that site do not correspond to that period. Probably the Seleucids might have changed the city's name when they occupied it.
Many remains are still there dated back to the roman period, i.e.: residences, villas, steles, etc…, but, none of them has a Latin name, and all the sites on which they are found are known by their Semitic names, e.g. the ruins in the vicinity of Ya'ther, Yaroon, 'Ain Ebl, etc.., and most importantly, those in Tyre.
The lack of names of Greek, Latin or even Arabic origin does not mean that these periods left no vestiges, but rather that the region was well urbanized and continuously inhabited by its autochthons since the earliest times: Canaanites, Hurrites and perhaps others.
Our aim in writing this eponymic study of well-known sites of South Lebanon, is to draw the attention of archeologists and other scholars to the importance of the region as a birthplace and growth of the civilization of the Near East, and, in particular, to find answers to the following questions:
1. When and where did the civilization in South Lebanon begin?
2. Who are the Canaanites who named practically all the cities and villages of the region?
3. What were the relations and influences that existed between South Lebanon and Egypt?
4. What is the density and influence of the Hurrites communities in the Region, and how long did they last?
5. What role did the people of South Lebanon play in the Cadmean ventures?
6. How well can archeology prove the continuous occupation of the settlements of the Region?