بين الحقيقة والتاريخ
بقلم الباحث في التاريخ الحضاري
د. يوسف الحوراني
موضوع كبير كبير، يطرحه للبحث أحد العامليين الأوفياء. خلتني أسمعه سؤالاً يتردّد في بلاد [عاملة]، قبل أربعة آلاف عام، وهو: ما هي حقيقة التاريخ وحق الإنسان فيه؟ وكان ما كان الجواب على السؤال، وهو الانتشار حتى وادي النيل آنذاك لضبط وفرها وقحطها، وامتداد البدو أبناء قومهم حتى وادي الرافدين، لتشريع حقوق إنسانها وتقديم أنبل ما حصل للتاريخ الحضاري العالمي، وهو [التشريع]، ولكل الناس. كذا كانت عظمة السؤال وتنامي الجواب في أزمنة قلقة كالتي نحن فيها…
* * *
الحقيقة: هي مفهوم ذهني. مقياسه الأثبت هو الإنسان ذاته، مع كل اختلاف ثقافته وميوله وقدراته العقلية. والحجة التي تساند ذلك، هي أنه لا يوجد مقياس واحد مطلق للحق أو للحقيقة. وقد جمعتهما وصية تاريخية مع المتسائل والآخرين معه، وهي: [ما ترضون أن يفعله الناس لكم، افعلوه أنتم لهم…]. وهكذا، في مجال السلوك، يكون الحق والحقيقة والإنسان في تلازم كامل معًا، يغني عن أية فلسفة أو اجتهاد فقهي.
أما تفاصيل مقياسها المركب في المجال العملي والعلمي فقد احتهد في عرضه المفكر الفلسفي [هنتر ميد]، فارتأى:
1- التحقق الحسي والمطابقة مع الواقع.
2- الترابط مع معارفنا السابقة.
3- ظهور النتائج المتوقعة ذاتها.
4- الاتفاق الاجتماعي الممكن حول الشروط المذكورة هذه.
5- موافقة السلطات ذات العلاقة، سواء علمية أم اجتماعية.
6- اليقين والارتياح الباطني بأن ما لدينا هو الأفضل، وليس المطلق (مذاهب ومشاكل الفلسفة).
وهنا أعود للقول أنها [مفهوم ذهني خفي]. فإن ملاحقتنا لها بمفردات مثل [حقق ويتحقق وسيتحقق]، تجعلها خفية دائمًا وتنتظر الحكم عليها، ممن يبحث عنها. والنهج اللغوي ذاته يتداوله الناس في اللغات التي نتعامل بها وفق معرفتنا.
وكي لا نبقى في التجريد، وهو ممل، أعرض لوحتين مختلفتين عن اختلاف مدلول الحقيقة في مجرى الفعل التاريخي الحضاري، وهما: [نحن والآخرون]. وقد اختص بهذا المفهوم الساميون القدماء، و[نحن من دون الآخرين]. وقد لازم هذا المفهوم الإغريق والرومان، وما سار على خطاهم ولا يزال طوال العصور التي توالت.
* * *
أحرج المكدونيون الإسكندر، عندما سألوه عن حقيقة غاية حروبه، بعد أن ثأر من الفرس وسلب ثرواتهم الضخمة وأحرق قصورهم لإرضاء [تاييس]، واجتاز إلى بلاد الهند الوادعة، بينما هم غدوا مرضى من الشوق إلى عائلاتهم وبلادهم، وقد تعبوا من مجاراة طموحه الذي لا غاية له سوى الحرب والقتل والمغامرة في تدمير كل عصي في بلاد الآخرين مع سفك دماء رجالهم وإذلال كل من يخضع له منهم من أجل سلامه. وذلك كله تحت شعار [توحيد العالم وتحرير بني الناس من الاستبداد والمتجبرين…
جمع قادة جيشه وواجههم بحقيقة يعمل لأجلها، خلال خطاب نقله المؤرخ الإغريقي [أريان] وكان منه:
[إن الرجل الذي هو رجل، حسب اعتقادي، حين يتجه إلى أهداف نبيلة لا تكون له غاية سوى نبل هذه الأهداف ذاتها. وإذا شاء أي منكم أن يستعلم عن حدود معيَّنة لهذه الحملة العسكرية الخاصة، فأقول لكم: إن مسافة الأرض التي لا تزال أمامنا، من هنا وحتى نهر [الغانج] هي مسافة صغيرة نسبيًّا… وستكون لنا كل [ليبيا] (أفريقيا) وإلى الشرق أيضًا، مع كل [آسيا] لهذه الأمبراطورية التي لا حدود لها إلاَّ التي وضعها الإله ذاته للعالم بكامله.] (25:5)
هذا ما افترضه الإسكندر المحارب لتعريف الحقيقة التي يرغب في إظهارها على الأرض. وهو قتلَ ودمّر وأذلّ شعوبًا كثيرة، فنقل بأعماله قيادة الإنسانية من الشرق إلى الغرب، وغدا مع الزمن كفاصل تاريخ. وهو تابع مسيرته، ولم يستطع إقناع سامعيه، فتعددت المؤامرات على حياته إلى أن نجحت إحداها أخيرًا ومات بالسم في بابل. وكان أنبل عذر قدمه الإغريق للعالم هو اتهام [أرسطو] الفيلسوف بأنه هو من أقتنع وأعد له السم القاتل (بلوتارك 77:7). وحقق الفكر الحضاري عدالة حقيقية.
كانت غاية إغريقه المرافقين له الانتقام من الفرس الذين كانوا أذلّوا أسلافهم وجعلوا مجموع بلادهم ولاية من أصل عشرين ولاية فارسية، كانت تدفع صاغرة ضريبة هي عشرون وزنة من الفضة كل سنة اعترافًا بخضوعهم (هيرودت 92:3). وقد حققوا هذا الموضوع وانتقموا، واعتبروا ذلك حقيقة وصلوا لها حين إذلالهم من كانوا أذلّوهم وانتهكوا حرمة حرياتهم.
أما هو فكانت في ذهنه حقيقة أخرى يعمل معتقدًا بها، وهي أنه من سلالة [هرقل] المؤلّه. وقد ردم بحر مدينة [صور] الفينيقية وقتل وأسر وباع أهلها للعبودية من أجل الوصول إلى معبد [هرقل] في المدينة، ولأنهم شاؤوا البقاء على الحياد من أجل أمنهم. (اريان 24:2)
وحقيقة الاستمرار في حروبه العبثية، وإفناء الناس وتدمير مدنهم وحصونهم، والإصرار على بلوغ أصعب ما يعسر على الآخرين بلوغه، هي عقيدته بالخلود والتّأليه خلال أعمال بطوليّة يتفوق بها على ما ينسبه القصاصون لجده المزعوم. ومن هذا التحدي الخيالي للجد كان ذهابه في الأرض إلى أبعد ما يمكنه الوصول إليه. وبلغت حقيقة قناعته بأنه إله ومن سلالة آلهة أنه فرض على الاخرين السجود له حين الاقتراب منه. (أريان 20:4)
غدر بكتيبة من أفضل محاربي الهند، بعد أن هادنهم وسمح لهم بالمغادرة من إحدى المدن، وأفنى جنودها. كما أمر بشنق مجموعة من الفلاسفة كانت تنصح الهنود بعدم الانضمام إليه، وتدعو إلى الثورة على احتلاله للبلاد (بلوتارك 59). وهو أمر بذبح أسرى الفرس لديه لإرهاب من كانوا يقاومونه بضراوة دفاعًا عن بلادهم (بلوتارك 37). كما وحدادًا على صديقه الشاب هيفايستيون أمر بقتل ذكور إحدى القبائل، وجز ذيول وأعراف جميع الخيول، وصلب الطبيب، وتدمير تحصينات المدن المجاورة. (بلوتارك 72)
كان مؤمنًا بدين يستلهم سلوكه منه وهو [دين الحرب] وسفك الدماء. وكان كتابه المقدس نسخة من إلياذة [هوميرس] يحملها معه في علبة جواهر ثمينة، كان غنمها من آثاث الملك [داريوس] الفارسي (بلوتارك 26). فهل تكون عقيدته هذه غير [الحقيقة] ما دام يؤمن بها ويغامر مع الموت لأجلها؟
لقد أبقت حقيقته الآخرين آخرين، مكلفين بفعل الموت، من أجل وصوله لها. وحتى المكدونيين الذين ورث قيادتهم عن والده، كان يذكرّهم بأن كرامتهم هي من صنع والده هو. (أريان 8:7)
ولن أهمل موقفًا يعفي الإسكندر من أية علاقة إنسانية في حروبه، وهو: حين أمر بإفناء كتيبة هندية من الشجعان أنضمت إلى جيشه، ولكنها أمتنعت عن قتل أبناء قومها. (اريان 27:4)
تلك كانت حقيقة الإسكندر الذي رفض قومه الاعتراف بألوهته، بينما بقي الاعتراف بالعربية تحت صفة [ذي القرنين] التي نرفقها باسمه، استمرارًَا لتراث سومري-أكادي، كان يعتبر القرون في الصور والتماثيل رمزًا للألوهة، وتمييزًا عن الناس.
حقيقة أخرى [نحن والآخرون]: كانت هناك حقيقة حضارية أخرى يتبناها آخرون، وهي غير حقيقة الإسكندر الدموية الرافضة لكل الآخرين. وهي حقيقة وجود الآخرين ومراعاة حقوقهم في الفعل والتشريع لصيانة هذه الحقوق. إنها حقيقة ذهنية الساميين الذين قدموا التشريع للإنسانية وبشروا بالسلام على لسان مقدساتهم. فقد أوصى بعل أوغاريت الإلاهة عناة بعد جلوسه على العرش: [أقيمي وئامًا في الأرض… أبذري في التراب محبَّة… اسكبي سلامًا في كبد الأرض… أكثري من الحبّ في قلب الحقول.] (ملاحم أوغاريت)
كانت هذه حقيقة الشريحة القرطاجية التي تحققت للمؤرخين. وهي أن [قرطاجه] السامية الفينيقية بنت امبراطورية شاسعة، دون إراقة أي دم لإنسان. وهذه الحقيقة قال عنها [أرسطو] معاصر الإسكندر، حين وصف قوانينها: [إن انتظام دستور القرطاجيين، مع إشراك الشعب في السياسة وإنعدام ظهور ثورات وطغاة، هي حقيقة تاريخية جديرة بالتقدير.] (السياسيات 1272:8ب)
* * *
تابعت روما تحقيق إلغاء الآخرين، كل الآخرين. وانتهزت فرصة إنشغال جيش قرطاجه في عمليات تحضير وتنظيم للبدائيين في أفريقيا واستولت على محمياته في أسبانيا وصقليه وسردينيا وما حولها. وكان الرد وصية هملقار الوالد لابنه هنيبعل أن يستعيد ما اغتصبه الرومان ويحد من تمادي الاغتصاب. وقد أقسم على ذلك في المعبد وهو ابن تسعة أعوام. (ليفي 1:21)
اجترح معجزة باجتيازه جبال الألب. ويبدو أن مغامرته القاسية هذه كانت لتدريب جيشه على التحمل واجتياز المصاعب القاسية، لأن [الألب]، حسب قوله، ليست سوى جبال عالية. ومع أنها أعلى من جبال [البيرينيه]، ولكنها لا تبلغ السماء. ولا يوجد مرتفع على الأرض غير قابل لاجتياز الإنسان… وقد تحرك الجيش في اليوم الثاني، واتبع هنيبعل طريقًا على طول وادي [الرون] باتجاه بلاد [الغول]. (ليفي 30:21)
قام بمسيرته بعد الإسكندر بأكثر من مئة عام سنة 218 ق.م.، وشاء المؤرخون الإغريق والرومان أن يكتبوا عنه وفق مفهوم حقيقة الإسكندر الدموية القائلة بإلغاء الآخرين وإخضاع العالمين بالبطولة والقهر والإذلال . ولكن الحقيقة لم تكن كذلك لهنيبعل وحملته الجبارة. فعالم حقيقة حربه يتسع لكل الآخرين. وهو كان يحارب لإلغاء الحروب وأعمال القهر.
هذه السياسة كانت وصلت إليه مع قيادة الجيش التي تسلمها بعد مقتل قائده زوج شقيقته، وعضو الحزب الذي ينتمي إليه ويتوجه بمبادئه؛ وكان هذا يدعى [هسدروبعل]. تسلم القيادة طوال ثماني سنوات من هملقار والد هنيبعل ووالد زوجته هو. وهو نال مساندة قوية من حزب [برقى] القرطاجي، الذي كان واسع النفوذ في الجيش وبين الأهلين، مع أن قياديي سياسة دولة قرطاجه كانوا يعارضونه ويحاربون سياسته التي كانت مبادئ لحزب [برقى]. (ليفي 2:21)
يصف المؤرخ ليفي سياسة الجيش القرطاجي هذه بقوله: [كانت سياسته ترمي إلى التوسع السلمي وليس التوسع بالقهر، مع تجنب الإستعمال المباشر للقوة لتوسيع سلطة القرطاجيين. وذلك كان يتم بإقامة علاقات صداقة مع الأمراء المحليين، لكسب دعمهم ضمن كل المجموعات المواليه لهم.
[بهذه السلوكيات المتميزة لديه كان يبسط نفوذه على المجموعات الأسبانية. وقد استطاع كسبها إلى تأييد قرطاجه.] (ليفي 3:21)
وعندما استلم هنيبعل الفتى القيادة، بعد اغتيال [هسدروبعل]، كانت كلمته الأبلغ لجنوده قوله: [إنه كان تلميذًا لهم قبل أن يصبح قائدًا. وسبب حربهم للرومان هو لأن الرومان شعب متكبر عديم الرحمة، وهم يريدون إخضاع العالم لإرادتهم، وان يكون لهم الحق بتحديد من علينا أن نصادق أو نعادي. وليس هناك حافز يوصل للنصر أقوى من إزدراء الموت.] (44:21)
اجتاز جبال الألب الصعبة مع النيّة بأن يتابع سياسة سلفه، ويكسب تأييد الشعوب التي يلتقي بها، ليبعدها عن روما، قبل الوصول إلى موقع الحرب والفصل بإراقة الدماء.
* * *
كان جيشه مكونًا من قوميات ولغات وألوان مختلفة. لا جامع بينها سوى الطاعة والمحبّة له. (بوليب 4:11، 19)
كتب عنه المؤرخ المعاصر له بوليب، فقال: [والمدهش أنه، بموهبته السياسية، وطوال سبعة عشر عامًا من الحروب والمخاطرات، لم تحدث أية مؤامرة عليه، ولم يتركه أحد من جيشه.] (5:23، 13)
وعندما لجأ إليه فصيل من [الغاليين]، انشقوا عن الرومان، رحب بهم ووعدهم بالمساعدة وأرسلهم إلى عائلاتهم وقومهم. وكان عددهم ألفي محارب، بينهم مئتا فارس. (ليفي 48:21)
في معركة [كاناي] التي انتصر فيها سنة 216 ق.م.، سقط خمسون ألف قتيل في المعركة. وبعد انتصاره أطلق الأسرى من غير الرومان أحرارًا دون مقابل، وجمع الأسرى الرومان وخاطبهم بلطف، قائلاً: [إنه لا يحارب الرومان حرب إفناء وإنما هو يحارب من أجل الشرف والحفاظ على الإمبراطورية فقط. ويمكن لروما دفع فدية عنهم وتحريرهم.] (ليفي 58:22؛ وبوليب 4:3، 118)
بعد انتصاره، غدا تردده في اقتحام روما وتدميرها بجيشه لغز تاريخ، لم يكتشفه المؤرخون لإختلاف مفهومهم عن [الحقيقة] في الحرب عن مفهومه هو. ولكن، هو ذاته كشف هذا اللغز بعد أن دعي مع جيشه للدفاع عن قرطاجه. ويكتب ليفي واصفًا تلقيه هذه الدعوة: [القصة هي أنه همهم باستنكار وصر على أسنانه، وبالكاد حبس دموعه عند سماع ما قاله له المبعوثون. عندما وصلته الرسالة قال: إنهم طوال سنوات مضت يحاولون بالقوة فرض العودة علي برفضهم إمدادي بالدعم والمال؛ ولكن الآن لا يدعونني بطرائق غير مباشرة، وإنما بكلمات واضحة: هنيبعل تمت هزيمته، ليس على يد الرومان الذين هزمهم في الحرب مراتٍ عديدة في المعارك وجعلهم يفرّون، وإنما بالحسد والاستخفاف المستمر من مجلس شيوخ قرطاجه. بهذه العودة المكروهة والمخجلة لي لن يكون [سيبيو] هو المنتصر والفرح، وإنما هو [هانو] الذي وجد أن الطريقة الوحيدة لتدميري مع عائلتي هي في تدمير قرطاجه.] (ليفي 20:30). وكان هانو هذا عدو حزب [برقى] السياسي، وهو الذي كان يقاوم الحرب ضد روما، حرصًا منه على عدم تنامي شهرة هنيبعل مع نجاحاته المستمرة. ولعل في هذا الموقف المؤسف عظة لكل من يقرأ ويبحث عن عظة في التاريخ…
قبل المعركة مع القائد الروماني الفتى [سيبيو]، طلب الإجتماع به، بعد أن أعجبه سلوكه كقائد نبيل، عندما عفا عن جواسيس قرطاجيين قبض عليهم وأعادهم سالمين لأعدائه.
اجتمعا معًا، فلفته إلى أنه لا يزال فتى قليل التجربة مع الحظ. وعليه أن ينتبه إلى أن الطبيعة ذاتها وضعت حدودًا لموضوع النزاع بين الشعبين. والحدود هي أن تكون إيطاليا للإيطاليين، وأفريقيا للقرطاجيين؛ وأنه على استعداد للتخلي عن صقلية وسردينيا وأسبانيا والجزر الأخرى، للشعب الروماني، على أن ينتهي الصراع بين الشعبين.
وأخيرًا عند نهاية الإجتماع وعدم تجاوب الروماني معه، أعاد تذكيره بإنقلاب الحظوظ، وقال متألمًا، كاشفًا سر اللغز الذي أتعب المؤرخين: [إني هنيبعل ذاته الذي بعد معركة [كاناي] غدا سيدًا على كل إيطاليا تقريبًا. تقدم إلى قرب روما ذاتها على بعد أقل من أربعين غلوة (8 كلم) من عاصمتكم، وراح يفكر بما سيفعله بكم وبأرض وطنكم. وهو الآن يجد نفسه بعد عودته إلى أفريقيا يفاوض أحد الرومان حول السبل التي يضمن بها سلامته وسلامة القرطاجيين.] (بوليب 1:15، 7). وكان عيَّره [مهربعل] قائد فرسانه حين رفض اقتحام روما، بأنه يعرف كيف ينتصر لكنه لا يعرف الإستفادة من النصر. (ليفي 51:22)
كذا كانت حقيقة حربه وانتصاراته، يفكر بالآخرين، كما يفكر بمن يخصه ويواليه. ولكن جواب القائد الشاب كان يقوم على حقيقة أخرى هي الحرب لإلغاء الآخرين. كان الجواب: لا بد من التذكير بحجة [هانو] عدو هنيبعل التي كان بموجبها يقاوم موافقة مجلس الشيوخ على إمداده بالدعم أو بالمال. والحجة هي: [إن كلمة سلام لا يتنفس بها أحد في روما.] (ليفي 13:23)
هكذا انتصرت الحقيقة الرومانية الإغريقية في الحرب، وفشلت حقيقة هنيبعل وحزب [برقى] القرطاجي الحضاري. وعندما سئل سيبيو عن فرصة السلام من قبل ثلاثين عضوًا من مجلس شيوخ قرطاجه الذين حمَّلوا مسؤولية الحرب لهنيبعل وحزبه، مظهرين الخضوع والذل أمام الرومان، أجابهم سيبيو قائلاً: [إنه جاء إلى أفريقيا مع أمل بأن يعود إلى الوطن بالنصر وليس باتفاقية سلام. وقد تعاظمت آماله مع نجاح حملته.] وعندها فرض شروطه على القرطاجيين، وذلك حدث سنة 203 ق.م. (ليفي 16:30)
دامت حقيقة عداء الرومان وتحققت لهم عملية إلغاء الآخرين بقيام [سيبيو إميليانس] سنة 146 ق.م. بتدمير قرطاجه بالنار، بعد أن كانت توصف بأنها أغنى مدن العالم في زمنها. وقد امتنع عن شراء أي شيء أو اقتنائه من بقايا المدينة، برغم حاجته. بل، ويذكر المؤرخ بوليب الذي كان يرافقه أنه بكى وهو يرى المدينة تحترق (4:38، 22). وكانت هكذا دمعته وحدها كافية للانحياز إلى حقيقة حزب [برقى] وهنيبعل والسلم وحقيقة الحرب من أجل [نحن والآخرين] وليس [نحن] فقط، كما كانت معظم الحروب ولا تزال…
وإن من يقرأ عن إصلاحات هنيبعل الإقتصادية حين إدارته الدولة في قرطاجه، يدرك المدلول العملي للحقيقة التي كان يحارب لأجلها، بعد أن غدا رجل دولة لا قائد حرب. (ليفي 46:38)
بقلم الباحث في التاريخ الحضاري
د. يوسف الحوراني
موضوع كبير كبير، يطرحه للبحث أحد العامليين الأوفياء. خلتني أسمعه سؤالاً يتردّد في بلاد [عاملة]، قبل أربعة آلاف عام، وهو: ما هي حقيقة التاريخ وحق الإنسان فيه؟ وكان ما كان الجواب على السؤال، وهو الانتشار حتى وادي النيل آنذاك لضبط وفرها وقحطها، وامتداد البدو أبناء قومهم حتى وادي الرافدين، لتشريع حقوق إنسانها وتقديم أنبل ما حصل للتاريخ الحضاري العالمي، وهو [التشريع]، ولكل الناس. كذا كانت عظمة السؤال وتنامي الجواب في أزمنة قلقة كالتي نحن فيها…
* * *
الحقيقة: هي مفهوم ذهني. مقياسه الأثبت هو الإنسان ذاته، مع كل اختلاف ثقافته وميوله وقدراته العقلية. والحجة التي تساند ذلك، هي أنه لا يوجد مقياس واحد مطلق للحق أو للحقيقة. وقد جمعتهما وصية تاريخية مع المتسائل والآخرين معه، وهي: [ما ترضون أن يفعله الناس لكم، افعلوه أنتم لهم…]. وهكذا، في مجال السلوك، يكون الحق والحقيقة والإنسان في تلازم كامل معًا، يغني عن أية فلسفة أو اجتهاد فقهي.
أما تفاصيل مقياسها المركب في المجال العملي والعلمي فقد احتهد في عرضه المفكر الفلسفي [هنتر ميد]، فارتأى:
1- التحقق الحسي والمطابقة مع الواقع.
2- الترابط مع معارفنا السابقة.
3- ظهور النتائج المتوقعة ذاتها.
4- الاتفاق الاجتماعي الممكن حول الشروط المذكورة هذه.
5- موافقة السلطات ذات العلاقة، سواء علمية أم اجتماعية.
6- اليقين والارتياح الباطني بأن ما لدينا هو الأفضل، وليس المطلق (مذاهب ومشاكل الفلسفة).
وهنا أعود للقول أنها [مفهوم ذهني خفي]. فإن ملاحقتنا لها بمفردات مثل [حقق ويتحقق وسيتحقق]، تجعلها خفية دائمًا وتنتظر الحكم عليها، ممن يبحث عنها. والنهج اللغوي ذاته يتداوله الناس في اللغات التي نتعامل بها وفق معرفتنا.
وكي لا نبقى في التجريد، وهو ممل، أعرض لوحتين مختلفتين عن اختلاف مدلول الحقيقة في مجرى الفعل التاريخي الحضاري، وهما: [نحن والآخرون]. وقد اختص بهذا المفهوم الساميون القدماء، و[نحن من دون الآخرين]. وقد لازم هذا المفهوم الإغريق والرومان، وما سار على خطاهم ولا يزال طوال العصور التي توالت.
* * *
أحرج المكدونيون الإسكندر، عندما سألوه عن حقيقة غاية حروبه، بعد أن ثأر من الفرس وسلب ثرواتهم الضخمة وأحرق قصورهم لإرضاء [تاييس]، واجتاز إلى بلاد الهند الوادعة، بينما هم غدوا مرضى من الشوق إلى عائلاتهم وبلادهم، وقد تعبوا من مجاراة طموحه الذي لا غاية له سوى الحرب والقتل والمغامرة في تدمير كل عصي في بلاد الآخرين مع سفك دماء رجالهم وإذلال كل من يخضع له منهم من أجل سلامه. وذلك كله تحت شعار [توحيد العالم وتحرير بني الناس من الاستبداد والمتجبرين…
جمع قادة جيشه وواجههم بحقيقة يعمل لأجلها، خلال خطاب نقله المؤرخ الإغريقي [أريان] وكان منه:
[إن الرجل الذي هو رجل، حسب اعتقادي، حين يتجه إلى أهداف نبيلة لا تكون له غاية سوى نبل هذه الأهداف ذاتها. وإذا شاء أي منكم أن يستعلم عن حدود معيَّنة لهذه الحملة العسكرية الخاصة، فأقول لكم: إن مسافة الأرض التي لا تزال أمامنا، من هنا وحتى نهر [الغانج] هي مسافة صغيرة نسبيًّا… وستكون لنا كل [ليبيا] (أفريقيا) وإلى الشرق أيضًا، مع كل [آسيا] لهذه الأمبراطورية التي لا حدود لها إلاَّ التي وضعها الإله ذاته للعالم بكامله.] (25:5)
هذا ما افترضه الإسكندر المحارب لتعريف الحقيقة التي يرغب في إظهارها على الأرض. وهو قتلَ ودمّر وأذلّ شعوبًا كثيرة، فنقل بأعماله قيادة الإنسانية من الشرق إلى الغرب، وغدا مع الزمن كفاصل تاريخ. وهو تابع مسيرته، ولم يستطع إقناع سامعيه، فتعددت المؤامرات على حياته إلى أن نجحت إحداها أخيرًا ومات بالسم في بابل. وكان أنبل عذر قدمه الإغريق للعالم هو اتهام [أرسطو] الفيلسوف بأنه هو من أقتنع وأعد له السم القاتل (بلوتارك 77:7). وحقق الفكر الحضاري عدالة حقيقية.
كانت غاية إغريقه المرافقين له الانتقام من الفرس الذين كانوا أذلّوا أسلافهم وجعلوا مجموع بلادهم ولاية من أصل عشرين ولاية فارسية، كانت تدفع صاغرة ضريبة هي عشرون وزنة من الفضة كل سنة اعترافًا بخضوعهم (هيرودت 92:3). وقد حققوا هذا الموضوع وانتقموا، واعتبروا ذلك حقيقة وصلوا لها حين إذلالهم من كانوا أذلّوهم وانتهكوا حرمة حرياتهم.
أما هو فكانت في ذهنه حقيقة أخرى يعمل معتقدًا بها، وهي أنه من سلالة [هرقل] المؤلّه. وقد ردم بحر مدينة [صور] الفينيقية وقتل وأسر وباع أهلها للعبودية من أجل الوصول إلى معبد [هرقل] في المدينة، ولأنهم شاؤوا البقاء على الحياد من أجل أمنهم. (اريان 24:2)
وحقيقة الاستمرار في حروبه العبثية، وإفناء الناس وتدمير مدنهم وحصونهم، والإصرار على بلوغ أصعب ما يعسر على الآخرين بلوغه، هي عقيدته بالخلود والتّأليه خلال أعمال بطوليّة يتفوق بها على ما ينسبه القصاصون لجده المزعوم. ومن هذا التحدي الخيالي للجد كان ذهابه في الأرض إلى أبعد ما يمكنه الوصول إليه. وبلغت حقيقة قناعته بأنه إله ومن سلالة آلهة أنه فرض على الاخرين السجود له حين الاقتراب منه. (أريان 20:4)
غدر بكتيبة من أفضل محاربي الهند، بعد أن هادنهم وسمح لهم بالمغادرة من إحدى المدن، وأفنى جنودها. كما أمر بشنق مجموعة من الفلاسفة كانت تنصح الهنود بعدم الانضمام إليه، وتدعو إلى الثورة على احتلاله للبلاد (بلوتارك 59). وهو أمر بذبح أسرى الفرس لديه لإرهاب من كانوا يقاومونه بضراوة دفاعًا عن بلادهم (بلوتارك 37). كما وحدادًا على صديقه الشاب هيفايستيون أمر بقتل ذكور إحدى القبائل، وجز ذيول وأعراف جميع الخيول، وصلب الطبيب، وتدمير تحصينات المدن المجاورة. (بلوتارك 72)
كان مؤمنًا بدين يستلهم سلوكه منه وهو [دين الحرب] وسفك الدماء. وكان كتابه المقدس نسخة من إلياذة [هوميرس] يحملها معه في علبة جواهر ثمينة، كان غنمها من آثاث الملك [داريوس] الفارسي (بلوتارك 26). فهل تكون عقيدته هذه غير [الحقيقة] ما دام يؤمن بها ويغامر مع الموت لأجلها؟
لقد أبقت حقيقته الآخرين آخرين، مكلفين بفعل الموت، من أجل وصوله لها. وحتى المكدونيين الذين ورث قيادتهم عن والده، كان يذكرّهم بأن كرامتهم هي من صنع والده هو. (أريان 8:7)
ولن أهمل موقفًا يعفي الإسكندر من أية علاقة إنسانية في حروبه، وهو: حين أمر بإفناء كتيبة هندية من الشجعان أنضمت إلى جيشه، ولكنها أمتنعت عن قتل أبناء قومها. (اريان 27:4)
تلك كانت حقيقة الإسكندر الذي رفض قومه الاعتراف بألوهته، بينما بقي الاعتراف بالعربية تحت صفة [ذي القرنين] التي نرفقها باسمه، استمرارًَا لتراث سومري-أكادي، كان يعتبر القرون في الصور والتماثيل رمزًا للألوهة، وتمييزًا عن الناس.
حقيقة أخرى [نحن والآخرون]: كانت هناك حقيقة حضارية أخرى يتبناها آخرون، وهي غير حقيقة الإسكندر الدموية الرافضة لكل الآخرين. وهي حقيقة وجود الآخرين ومراعاة حقوقهم في الفعل والتشريع لصيانة هذه الحقوق. إنها حقيقة ذهنية الساميين الذين قدموا التشريع للإنسانية وبشروا بالسلام على لسان مقدساتهم. فقد أوصى بعل أوغاريت الإلاهة عناة بعد جلوسه على العرش: [أقيمي وئامًا في الأرض… أبذري في التراب محبَّة… اسكبي سلامًا في كبد الأرض… أكثري من الحبّ في قلب الحقول.] (ملاحم أوغاريت)
كانت هذه حقيقة الشريحة القرطاجية التي تحققت للمؤرخين. وهي أن [قرطاجه] السامية الفينيقية بنت امبراطورية شاسعة، دون إراقة أي دم لإنسان. وهذه الحقيقة قال عنها [أرسطو] معاصر الإسكندر، حين وصف قوانينها: [إن انتظام دستور القرطاجيين، مع إشراك الشعب في السياسة وإنعدام ظهور ثورات وطغاة، هي حقيقة تاريخية جديرة بالتقدير.] (السياسيات 1272:8ب)
* * *
تابعت روما تحقيق إلغاء الآخرين، كل الآخرين. وانتهزت فرصة إنشغال جيش قرطاجه في عمليات تحضير وتنظيم للبدائيين في أفريقيا واستولت على محمياته في أسبانيا وصقليه وسردينيا وما حولها. وكان الرد وصية هملقار الوالد لابنه هنيبعل أن يستعيد ما اغتصبه الرومان ويحد من تمادي الاغتصاب. وقد أقسم على ذلك في المعبد وهو ابن تسعة أعوام. (ليفي 1:21)
اجترح معجزة باجتيازه جبال الألب. ويبدو أن مغامرته القاسية هذه كانت لتدريب جيشه على التحمل واجتياز المصاعب القاسية، لأن [الألب]، حسب قوله، ليست سوى جبال عالية. ومع أنها أعلى من جبال [البيرينيه]، ولكنها لا تبلغ السماء. ولا يوجد مرتفع على الأرض غير قابل لاجتياز الإنسان… وقد تحرك الجيش في اليوم الثاني، واتبع هنيبعل طريقًا على طول وادي [الرون] باتجاه بلاد [الغول]. (ليفي 30:21)
قام بمسيرته بعد الإسكندر بأكثر من مئة عام سنة 218 ق.م.، وشاء المؤرخون الإغريق والرومان أن يكتبوا عنه وفق مفهوم حقيقة الإسكندر الدموية القائلة بإلغاء الآخرين وإخضاع العالمين بالبطولة والقهر والإذلال . ولكن الحقيقة لم تكن كذلك لهنيبعل وحملته الجبارة. فعالم حقيقة حربه يتسع لكل الآخرين. وهو كان يحارب لإلغاء الحروب وأعمال القهر.
هذه السياسة كانت وصلت إليه مع قيادة الجيش التي تسلمها بعد مقتل قائده زوج شقيقته، وعضو الحزب الذي ينتمي إليه ويتوجه بمبادئه؛ وكان هذا يدعى [هسدروبعل]. تسلم القيادة طوال ثماني سنوات من هملقار والد هنيبعل ووالد زوجته هو. وهو نال مساندة قوية من حزب [برقى] القرطاجي، الذي كان واسع النفوذ في الجيش وبين الأهلين، مع أن قياديي سياسة دولة قرطاجه كانوا يعارضونه ويحاربون سياسته التي كانت مبادئ لحزب [برقى]. (ليفي 2:21)
يصف المؤرخ ليفي سياسة الجيش القرطاجي هذه بقوله: [كانت سياسته ترمي إلى التوسع السلمي وليس التوسع بالقهر، مع تجنب الإستعمال المباشر للقوة لتوسيع سلطة القرطاجيين. وذلك كان يتم بإقامة علاقات صداقة مع الأمراء المحليين، لكسب دعمهم ضمن كل المجموعات المواليه لهم.
[بهذه السلوكيات المتميزة لديه كان يبسط نفوذه على المجموعات الأسبانية. وقد استطاع كسبها إلى تأييد قرطاجه.] (ليفي 3:21)
وعندما استلم هنيبعل الفتى القيادة، بعد اغتيال [هسدروبعل]، كانت كلمته الأبلغ لجنوده قوله: [إنه كان تلميذًا لهم قبل أن يصبح قائدًا. وسبب حربهم للرومان هو لأن الرومان شعب متكبر عديم الرحمة، وهم يريدون إخضاع العالم لإرادتهم، وان يكون لهم الحق بتحديد من علينا أن نصادق أو نعادي. وليس هناك حافز يوصل للنصر أقوى من إزدراء الموت.] (44:21)
اجتاز جبال الألب الصعبة مع النيّة بأن يتابع سياسة سلفه، ويكسب تأييد الشعوب التي يلتقي بها، ليبعدها عن روما، قبل الوصول إلى موقع الحرب والفصل بإراقة الدماء.
* * *
كان جيشه مكونًا من قوميات ولغات وألوان مختلفة. لا جامع بينها سوى الطاعة والمحبّة له. (بوليب 4:11، 19)
كتب عنه المؤرخ المعاصر له بوليب، فقال: [والمدهش أنه، بموهبته السياسية، وطوال سبعة عشر عامًا من الحروب والمخاطرات، لم تحدث أية مؤامرة عليه، ولم يتركه أحد من جيشه.] (5:23، 13)
وعندما لجأ إليه فصيل من [الغاليين]، انشقوا عن الرومان، رحب بهم ووعدهم بالمساعدة وأرسلهم إلى عائلاتهم وقومهم. وكان عددهم ألفي محارب، بينهم مئتا فارس. (ليفي 48:21)
في معركة [كاناي] التي انتصر فيها سنة 216 ق.م.، سقط خمسون ألف قتيل في المعركة. وبعد انتصاره أطلق الأسرى من غير الرومان أحرارًا دون مقابل، وجمع الأسرى الرومان وخاطبهم بلطف، قائلاً: [إنه لا يحارب الرومان حرب إفناء وإنما هو يحارب من أجل الشرف والحفاظ على الإمبراطورية فقط. ويمكن لروما دفع فدية عنهم وتحريرهم.] (ليفي 58:22؛ وبوليب 4:3، 118)
بعد انتصاره، غدا تردده في اقتحام روما وتدميرها بجيشه لغز تاريخ، لم يكتشفه المؤرخون لإختلاف مفهومهم عن [الحقيقة] في الحرب عن مفهومه هو. ولكن، هو ذاته كشف هذا اللغز بعد أن دعي مع جيشه للدفاع عن قرطاجه. ويكتب ليفي واصفًا تلقيه هذه الدعوة: [القصة هي أنه همهم باستنكار وصر على أسنانه، وبالكاد حبس دموعه عند سماع ما قاله له المبعوثون. عندما وصلته الرسالة قال: إنهم طوال سنوات مضت يحاولون بالقوة فرض العودة علي برفضهم إمدادي بالدعم والمال؛ ولكن الآن لا يدعونني بطرائق غير مباشرة، وإنما بكلمات واضحة: هنيبعل تمت هزيمته، ليس على يد الرومان الذين هزمهم في الحرب مراتٍ عديدة في المعارك وجعلهم يفرّون، وإنما بالحسد والاستخفاف المستمر من مجلس شيوخ قرطاجه. بهذه العودة المكروهة والمخجلة لي لن يكون [سيبيو] هو المنتصر والفرح، وإنما هو [هانو] الذي وجد أن الطريقة الوحيدة لتدميري مع عائلتي هي في تدمير قرطاجه.] (ليفي 20:30). وكان هانو هذا عدو حزب [برقى] السياسي، وهو الذي كان يقاوم الحرب ضد روما، حرصًا منه على عدم تنامي شهرة هنيبعل مع نجاحاته المستمرة. ولعل في هذا الموقف المؤسف عظة لكل من يقرأ ويبحث عن عظة في التاريخ…
قبل المعركة مع القائد الروماني الفتى [سيبيو]، طلب الإجتماع به، بعد أن أعجبه سلوكه كقائد نبيل، عندما عفا عن جواسيس قرطاجيين قبض عليهم وأعادهم سالمين لأعدائه.
اجتمعا معًا، فلفته إلى أنه لا يزال فتى قليل التجربة مع الحظ. وعليه أن ينتبه إلى أن الطبيعة ذاتها وضعت حدودًا لموضوع النزاع بين الشعبين. والحدود هي أن تكون إيطاليا للإيطاليين، وأفريقيا للقرطاجيين؛ وأنه على استعداد للتخلي عن صقلية وسردينيا وأسبانيا والجزر الأخرى، للشعب الروماني، على أن ينتهي الصراع بين الشعبين.
وأخيرًا عند نهاية الإجتماع وعدم تجاوب الروماني معه، أعاد تذكيره بإنقلاب الحظوظ، وقال متألمًا، كاشفًا سر اللغز الذي أتعب المؤرخين: [إني هنيبعل ذاته الذي بعد معركة [كاناي] غدا سيدًا على كل إيطاليا تقريبًا. تقدم إلى قرب روما ذاتها على بعد أقل من أربعين غلوة (8 كلم) من عاصمتكم، وراح يفكر بما سيفعله بكم وبأرض وطنكم. وهو الآن يجد نفسه بعد عودته إلى أفريقيا يفاوض أحد الرومان حول السبل التي يضمن بها سلامته وسلامة القرطاجيين.] (بوليب 1:15، 7). وكان عيَّره [مهربعل] قائد فرسانه حين رفض اقتحام روما، بأنه يعرف كيف ينتصر لكنه لا يعرف الإستفادة من النصر. (ليفي 51:22)
كذا كانت حقيقة حربه وانتصاراته، يفكر بالآخرين، كما يفكر بمن يخصه ويواليه. ولكن جواب القائد الشاب كان يقوم على حقيقة أخرى هي الحرب لإلغاء الآخرين. كان الجواب: لا بد من التذكير بحجة [هانو] عدو هنيبعل التي كان بموجبها يقاوم موافقة مجلس الشيوخ على إمداده بالدعم أو بالمال. والحجة هي: [إن كلمة سلام لا يتنفس بها أحد في روما.] (ليفي 13:23)
هكذا انتصرت الحقيقة الرومانية الإغريقية في الحرب، وفشلت حقيقة هنيبعل وحزب [برقى] القرطاجي الحضاري. وعندما سئل سيبيو عن فرصة السلام من قبل ثلاثين عضوًا من مجلس شيوخ قرطاجه الذين حمَّلوا مسؤولية الحرب لهنيبعل وحزبه، مظهرين الخضوع والذل أمام الرومان، أجابهم سيبيو قائلاً: [إنه جاء إلى أفريقيا مع أمل بأن يعود إلى الوطن بالنصر وليس باتفاقية سلام. وقد تعاظمت آماله مع نجاح حملته.] وعندها فرض شروطه على القرطاجيين، وذلك حدث سنة 203 ق.م. (ليفي 16:30)
دامت حقيقة عداء الرومان وتحققت لهم عملية إلغاء الآخرين بقيام [سيبيو إميليانس] سنة 146 ق.م. بتدمير قرطاجه بالنار، بعد أن كانت توصف بأنها أغنى مدن العالم في زمنها. وقد امتنع عن شراء أي شيء أو اقتنائه من بقايا المدينة، برغم حاجته. بل، ويذكر المؤرخ بوليب الذي كان يرافقه أنه بكى وهو يرى المدينة تحترق (4:38، 22). وكانت هكذا دمعته وحدها كافية للانحياز إلى حقيقة حزب [برقى] وهنيبعل والسلم وحقيقة الحرب من أجل [نحن والآخرين] وليس [نحن] فقط، كما كانت معظم الحروب ولا تزال…
وإن من يقرأ عن إصلاحات هنيبعل الإقتصادية حين إدارته الدولة في قرطاجه، يدرك المدلول العملي للحقيقة التي كان يحارب لأجلها، بعد أن غدا رجل دولة لا قائد حرب. (ليفي 46:38)
No comments:
Post a Comment